التمديد مجددا في أجل التمتع بالمنحة الاستثنائية للتسليم السريع لكميات الشعير    التمديد مجدّدا في منحة تسليم الشعير الى حدود هذا الأجل..#خبر_عاجل    ليفربول يحجب رقم 20 الخاص بجوتا إلى الأبد    ندوة صحفية بمقر النقابة الوطنية للصحفيين لكشف وتوضيح ما يحدث من اجرام بيئي في خليج المنستير    أبرز الأحداث السياسية في تونس في أسبوع (من 5 إلى 11 جويلية 2025)    60 نائبا من حزب العمال البريطاني يطالبون بالاعتراف الفوري بفلسطين    عاجل/ السجن 20 عاما ضد كاتب عام سابق بنقابة الحرس الوطني من اجل هذه التهم    بطولة العالم للكرة الطائرة للفتيات: المنتخب الوطني يواجه اليوم منتخب جمهورية الدومينيكان    الترجي الجرجيسي: تربصات بالجملة .. ومواجهتين وديتين في البرنامج    عاجل/ نشرة متابعة: أمطار غزيرة بهذه الولايات ورياح قوية بالجنوب    عاجل – للتونسيين: ''يوم عطلة'' في جويلية للموظفين في القطاعين العام والخاص    شهداء في قصف متواصل على غزة منذ فجر اليوم.. #خبر_عاجل    الدوري الماسي – ملتقى موناكو: التونسي محمد أمين الجهيناوي في المركز الثامن بسباق 3000 متر موانع    من الكراء للملكية... مشروع قانون جديد على طاولة مجلس الوزراء بش يسهّل الحلم بالمسكن للتونسيين !    وزارة التعليم العالي تعلن عن موعد الحصول على كلمات العبور الخاصة بالناجحين في دورة المراقبة للبكالوريا    عاجل/ عاصفة قبلي وتوزر: مهندس بالرصد الجوي يقدّم تفسيرا للظاهرة    عاجل/ فرنسا ترحّل تونسيا محكوم بالسجن 132 عاما    لافروف: نحذر الولايات المتحدة وحلفاءها من خلق تهديدات أمنية لروسيا وكوريا الشمالية    بالقفطان والبرنس.. نجل زيدان وزوجته يحييان التراث المغربي    كارلسون لا يستبعد احتمال عمل إبستين مع الموساد وممارسة الابتزاز لصالح إسرائيل    المنستير: توسعة ميناء الصيد البحري بطبلبة وانجاز مركّب تقني وتأهيل مركز التكوين محور اجتماع اللجنة الجهوية للتسريع في المشاريع العمومية    عاجل/ البنتاغون: صاروخ إيراني أصاب قاعدة "العديد" في قطر    جلسة بوزارة التجهيز لمتابعة تقدم تنفيذ مشاريع الجسور والطرقات لسنة 2025    ترامب يكشف عن طريقة جديدة لتسليح أوكرانيا    عاجل/ اليوم: أمطار غزيرة ورياح تتجاوز سرعتها 80 كلم/س بهذه المناطق    مصادر دبلوماسية: مؤتمر الأمم المتحدة لحل الدولتين سيعقد في 28 و29 جويلية    مخطط التنمية 2026 – 2030: اقتراح 132 مشروع بمدينة الحمامات    معالم وآثار: توزر... دار بن عزوز .. منارة داخل المدينة العتيقة    تاريخ الخيانات السياسية (12) بين الحجّاج و ابن الأشعث    تونس – القلعة الكبرى: العثور على فتاة ميتة في منزلها بحبل ملتف حول رقبتها    بالمناسبة .. .مهازل مهرجان قرطاج وفضائحه    في ظلّ غياب الخصوصية والتميّز والإمكانيات: ما الهدف من كثرة المهرجانات في سوسة؟    قرطاج لا يُغَنَّى فيه مجانًا... تصريح رسمي يحسم الجدل حول مشاركة الفنانة أحلام    الحكومات العربية باتت مهتمة بالاستخدمات السلمية للتكنولوجيات النووية    منظمة الصحة العالمية تكرّم سعيّد    الكولستيرول الجيد والكولستيرول الضار: هل تعرف ما هو الفرق؟    للناجحين في دورة المراقبة للبكالوريا: هكذا تتم عملية التوجيه الجامعي 2025    الاسباني كارولوس ألكاراز يتأهل الى الدور النهائي لبطولة ويمبلدون    تلامذة من تونس يلمعو عربياً في تحدي كبير! شكونهم؟    تاكل تُن وانت مريض سكر؟ إنت في الأمان ولا تغالط في روحك؟    توزر: تواصل التدخلات لإزالة آثار العاصفة الرملية    ديوان الإفتاء يصدر مجلة "فتاوى تونسية " تتضمن دراسات وفتاوى لأعلام الزيتونة    تونس: البنك الأوروبي للإستثمار مستعد لتمويل مشاريع ذات النجاعة الطاقية ومكافحة الهدر المائي والنقل الحديدي    ديوان الإفتاء يصدر مجلة "فتاوى تونسية "    البنك الإفريقي للتنمية: النمو الاقتصادي في تونس سيبلغ 1.9% في 2025...    القصرين: حجز 11 طناً من البطاطا المخزنة خارج المسالك القانونية بمدينة بوزقام    موفى جوان 2025: عجز تونس التجاري يتفاقم إلى 9،900 مليار دينار..    ما ترقدش بكري؟ المخ، القلب، والمعدة يدفعوا الثمن!    كأس العالم للأندية 2025: صراع محتدم على الحذاء الذهبي قبل االمباراة النهائية    أزمة ديون جديدة تهدد انطلاقة النادي الإفريقي قبل موسم 2025-2026    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة بأمطار مع تساقط البرد بهذه الجهات    ترتيب المندوبيات الجهوية للتربية حسب نسب النجاح في امتحانات الباكالوريا 2025 عمومي    مقداد السهيلي: أنا ما نيش هاوي وإلا جيت لبارح باش نوري وجهي ونستنى باش يشجعني الجمهور    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منظمة الصحة العالمية تمنح رئيس الجمهورية درع الاتفاقية الدولية للوقاية من الجوائح..    التوانسة الليلة على موعد مع ''قمر الغزال'': ماتفوّتش الفرصة    سعيّد: كلّ تظاهرة ثقافيّة أو فنيّة يجب أن تتنزّل في إطار قضايا الحريّة والتحرّر    شنية سرّ السخانة في جويلية.. بالرغم الي أحنا بعاد على الشمس؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة أيضا طريق مسدود
نشر في الحوار نت يوم 12 - 11 - 2014

تنتمي أكثر كلمات هذه " الكلمة الحرة " إلى التفكير السياسي في قضية شغلتنا ونحن شباب وهي قضية مناهج التغيير والإصلاح وأيها أدنى إلى بلادنا التونسية. كان حوارنا القديم عذبا لأنه حوار فكري خالص لمّا " تحنظله " السياسة بمراراتها.

لك أن تقول كذلك : هذه الكلمات هي التحليل الفكري لواقع الهزيمة العربية في إثر سقوط الثورات العربية واحدة من بعد الأخرى. كثيرا ما تبدو التحاليل السياسية مائعة رجراجة لا لون لها ولا طعم فلا ترد يد لامس يتقمص مفرداتها الإسلامي بمثل ما يفعل ذلك الماركسي فلا يتحرج هذا ولا يتأثم ذاك ويتجرع القارئ السم مرتين.

كتب العبد الفقير إلى ربه سبحانه قبل زهاء عام أو أكثر بقليل مقالا بعنوان : الديمقراطية طريق مسدود وكان ذلك إبان الإنقلاب ضد إرادة الشعب في مصر وإن كان المقال ذيلا من ذيول مقال قديم جدا في إثر سحق الدبابات الفرنسية لصناديق الإقتراع في الجزائر عام 1991.

مناهج التغيير الإصلاحي لا يتعدى عددها عدد أصابع اليد الواحدة تقريبا فهي :


1 إما مسلك إنقلابي عسكري بمثل ما وقع في السودان في آخر يوم من أيام جوان حزيران 1989 وهو الإنقلاب العسكري الذي مازال قائما إلى اليوم ومن سخريات الأيام وتهكمات الليالي أن ذلك الإنقلاب دبر لأجل إيقاف التمرد العسكري الجنوبي الذي يطمح إلى الإستقلال وها هو الإنقلاب ذاته الذي تصدى لإستقلال الجنوب يثمر العقوق ذاته إذ إستقل الجنوب إمعانا في تجزئ هذه الأمة وتشرذمها وتشظيها. المرضى بالديمقراطية إلى حد الثمالة بها يرفضون ذلك المسلك الإنقلابي العسكري وربما تتسلل إليهم شياطين " الدين " لتوحي إليهم أن المسلك مرفوض دينا قبل أن يكون مرفوضا حداثة.

2 أو هو مسلك ديمقراطي عبر الإرادة الشعبية وصناديق الإقتراع بمثل ما يجد في أكثر بلدان الغرب سيما أمريكا وأوروبا وهو المسلك الأدنى إلى مقاصد الإسلام. هو الأدنى فحسب وليس هو التعبير الإسلامي الوحيد ولا الأوحد إذ أن ذلك لا يولد حتى ننصهر في أمة واحدة ولنا مع هذا المبحث عودة بحوله سبحانه. سوى أن هذا المسلك الديمقراطي يلفى نفورا ولو عمليا من عموم العرب والمسلمين بحسبانه عادة لم تتشربها أعرافنا ولقد أثبتنا أننا أكثر سكان الأرض تأبيا على قبول الجديد كما يلفى هذا المسلك مقاومة شرسة بالنظرية و بالتطبيق من لدن جحافل السلفية بكل مدارسها ودون إستثناء وفي مقابل ذلك ضمر الإنتاج الفكري الإسلامي المعتدل في مثل هذه المباحث السياسية ضمورا شديدا ومخيفا. ذلك المسلك هو المسلك الذي تعتمده الأنظمة العربية القمعية في محاولة للإنسجام مع إنتاجات الحداثة فهي ديمقراطية تحت السلطان الملكي في الكويت مثلا وفي المغرب الأقصى كذلك وهي ديمقراطية شرعية ما لم تأت بالإسلاميين في الجزائر مثلا قبل أزيد من عقدين وفي مصر حديثا.

3 أو هو مسلك الإصلاح الهادئ المتدرج وهذا بدوره له صورتان فإما أن يكون إختراقا للجهاز السلطاني وهو المسلك الذي أشاد به القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام وله شروط ومناخات دون ريب لا أرب لنا الآن فيها وإما أن يكون عملا مجتمعيا قاعديا في حقول لصيقة بالناس وهو المسلك الذي إشتهر به الإخوان المسلمون وخاصة في أدبيات وأعمال زعيم الجماعة ومؤسسها الإمام الشهيد البنا عليه الرحمة والرضوان. وهذا المسلك هو الأعم الأغلب في تاريخ الأمة إذ هو لا يتطلب إنصهارا قانونيا ولا حتى جماعة أو حزبا بل تظل تأتلف حلقاته على إمتداد عقود حتى يثمر تغيير إصلاحيا وعندها إما أن تلتقطه الأيدي الأمينة أو تعبث به الأخرى.

4 أو هو مسلك الثورة الشعبية وقد تكون مسلحة بوعي أو سلمية بوعي كذلك وقد تجرها تطورات الأحداث إلى التسلح والتعسكر وهذا المسلك عرفته الأمة منذ بواكير فجرها على أيدي فئتين هما : الخوارج والشيعة ضد الأمويين ثم ضد العباسيين ثم خفت قليلا وظل يتفجر هنا وهناك ثم أحيته الثورة الإيرانية بنجاح كبير جدا وقد يأخذ طابع العبثية التفجيرية الفوضوية من مثل ما قام به تنظيم القاعدة وشبيه بذلك ما تقوم به منظمة داعش اليوم. أما المسلك الثوري الشعبي الجماهيري بحق فإنما تفجر في عصرنا هذا على أيدي التونسيين ثم المصريين والليبيين ثم السوريين واليمنيين ولكن آلت النتائج إلى ما يشبه أضدادها. وهذا هو مخ هذه الكلمات.

وما عدا ذلك لم تخترع البشرية منهاجا آخر يندرج ضمن حركات التغيير الإصلاحي.

إنسداد المسالك الأخرى كلها ( الإنقلابي العسكري والديمقراطي ) أمر مجمع عليه بالنتيجة إذ أفضت الإنقلابات العسكرية في البلاد العربية كلها وكذا الإسلامية إلى مزيد من تفرق الأمة بل إلى مزيد من تفرق الوحدة الوطنية الداخلية أصلا وكذلك إلى مزيد من التضييق على الحريات وإنخرامات جديدة في العدالة الإجتماعية ثم إلى مزيد من المديونيات الجالبة للتبعية الإقتصادية والسياسية بالضرورة وإنعدام الإستقلال السيادي وتلك هي مراكز السرطان الإجتماعي الأشد خبثا والكفيلة بالترهل والإندحار والتقهقر والوقوع فريسة بين فكي الإحتلال الجديد أي الإحتلال السيادي والمالي والسياسي والقيمي. من يأنس في نفسه الجرأة على رفع هذا التحدي فليأت بمثال واحد في الأمة العربية أو الإسلامية عدا تركيا الذي نفردها بحديث في قالة أخرى بحوله سبحانه.

السؤال الأخطر هو : لم فشل الخيار الثوري.

هذه الكلمات التي أكتبها اليوم هي آخر ما توصل إليها حواري مع نفسي ولكم أكون سعيدا بشريك في الحوار على قاعدتي المعرفة والحلم وليس على قاعدتي الحمق والطيش. إنما أبحث عن أكثر الشركاء ألما مبرحا في إثر سقوط التجارب الثورية الحديثة تجربة من بعد تجربة من مصر إلى تونس مرورا بليبيا وسوريا واليمن.

المقدمة الأولي : إجهاض الثورة في تونس.

أبحث عن شريك حواري يوافقني في أن الثورة التونسية أجهضت بما يقترب جدا من الضربة القاضية حتى لو إستعادت الثورة رئيسا ثوريا. أما الواحلون في التبريرات الفجة فلا أرب لي فيهم ولا أرب لي في الحديث معهم أبدا البتة. ظني القطعي أن إمساك رجال المخلوع بن علي بالسلطة التنفيذية في تونس من بعد يوم النكبة الأسود ( الأحد 26 أكتوبر 2014 ) هو البرهان الساطع على وأد الثورة وليس معنى ذلك بالضرورة تنظيم هجومات مباشرة وسريعة وبالجملة ضد الحريات ولكن معنى ذلك هو تحول الحرب الدولية ضد ما يسمونه الإسلام السياسي من مرحلة التخطيط إلى مرحلة البناء فوق الأنقاض. ظني القطعي هو أن عدو الأمة وأحرارها أذكى منا بألف ألف مرة. حقيقة تفزعك ولكن عليك تجرعها كما تتجرع السم الزعاف نشدانا ليقظة جديدة.

المقدمة الثانية : لم يكن يسع الثورة في تونس إلا الإجهاض.

تونس بالذات لا تملك أي مقوم من المقومات الجغرافية ولا السكانية ولا الإقتصادية ولا الإستراتيجية التي تجعلها تقود ثورة للحرية والكرامة تأبق بها من ربقة النظام الدولي المتنفذ. ذلك هو ظني وذلك هو الذي كنا نتحلق حوله في سنوات قديمات جدا في الحركة الإسلامية ومنها دراسة متينة جدا وعميقة جدا بعنوان : نحو تحليل حضاري للمجتمع التونسي. ثم نسينا كل شيء وأغوتنا الثورة الحمقاء وأغرانا وهجها المتألق وهو يكاد يغشى الأرض المحتلة. أضحى كل ذلك أملا يداعب الأجفان بمثل ما كان بالأمس البعيد أملا يداعب الأجفان ذاتها. ولكن طعم الهزيمة مر مرارة لا يعرفها إلا من يعانيها وصاحب القلم يتجرعها في هذه الأيام قاسية حنظلية لا يعزيه فيها شيء سوى الأمل في الله وحده سبحانه. أين الحكمة التونسية التي شنفت آذاننا كثيرا وجعلت من بعضنا سحرة سياسيين لا يرد لهم القضاء دعاء. إستوينا مع الحالة المصرية التي لم نضن عليها بغياب الحكمة. سقوط مصر لا يعني إلا مقدمة لسقوط الحصون الخلفية الأخرى ولذلك بدأ بها دهاقنة النظام الدولي المتنفذين. الذين كانوا يحلمون بمجرد بقاء الثورة التونسية ولو على سرير الإنعاش من بعد نجاح الإنقلاب ضد الإنتخاب في مصر وهذا القلم كان من أولئك الحالمين لم يكونوا جديرين بأحلام تكذبها الأدوات الواقعية الدولية النافذة. هذا الكلام صاحبه الأول واحد من أكبر منظري الفكر العربي المعاصر وهو الأستاذ المقاوم منير شفيق. كلام كتبه الرجل منذ عقود وأصدر فيه كتبا وأشدنا به ودرسناه في خلايانا دراسة. ثم نسينا كل شيء مرة أخرى. أملي من نفسي قبل أن أموت هو ألا أنسى مرة أخرى أن تقديم الهم القطري المحلي على الهم الوطني القومي الإسلامي هو عبث معبوث وإستنبات للبذور في الهواء.

كيف أجهضت الثورة العربية ثورة من بعد ثورة؟

في تقديري المتواضع ولكم أود الظفر بشركاء مخالفين منصفين ولكن ملتاعين مثلي أن الأسباب تالية الذكر هي المسؤولة عن إنجهاض المسار الثوري العربي المعاصر :

1 واقع التجزئة العربية الشنيعة.

ليس واردا أبدا في منطق الأشياء ومنطق الأشياء هو الأصل الأول أن يتحرر شعب أو مجتمع أو أمة من غشمة سلطان محلي صغير وهو يخضع بسلطانه ذاك نفسه إلى غشمة سلطان دولي أكبر وأقوى. تلك هي المعادلة الفكرية التي يجهلها بعضنا أو يتجاهلها بعضنا الآخر. مما يغذي تلك الحقيقة أن الأرض تحولت منذ محطات معروفة ( نأتي إليها لاحقا بحوله سبحانه ) إلى ما يشبه البيت الزجاجي الصغير بما يجعل أهلها في حالة إشتباك دائم كأنما هم في جزيرة صغيرة لا يملكون هجرانها. المحطة الأولى التي يهزأ بها بعضنا جهلا بتأثيراتها هي سقوط الدولة العثمانية التي كانت تحفظ السقف القومي الإسلامي من التجزئة والتشظي والتفرق. المحطة الثانية التي أثمرتها تلك المحطة مباشرة هي مؤتمر بازل 1897 ثم وعد بلفور وإتفاقيات سايكس وبيكو من بعد ذلك بعقدين فحسب ثم ترجمة كل ذلك عمليا وفوق الأرض أي نكبة مايو 1948. أول ثمرة لكل ذلك هو نشوء الدولة العربية المعاصرة أي دولة ما بعد الإستقلال أو دولة التبعية ثم تحركت النعرات العرقية والطائفية والمذهبية بمفاعيل داخلية وخارجية فإشتعلت النيران بين كل قطر عربي تابع تقريبا وجاره. هناك تحقق الحلم الصهيوني ونامت نواطير مصر عن ثعالبها كما قال الشاعر. الثورة تحرر وحرية وإنعتاق ولا يقبل عقلي أبدا أن يتحرر شعب محكوم بالإرادة الدولية المعادية بالضرورة وفي خضم إحتلال جديد إسمه العولمة. الذين يجهلون ما حدث يوم الفاتح من جانفي يناير 2005 لا يجدر بهم الحديث عن الثورة والحرية لأن الثورة فعل فكري بالضرورة والإبتداء وليس إستعراضا للعضلات في الأزقة.

2 واقع الإحتلال الثقافي الضاري.

ليس واردا كذلك أن يتحرر شعب أو مجتمع أو أمة يهضم الإحتلال الثقافي المعادي لهويته لا بإسم الحرية ولا بإسم الديمقراطية ولا بإسم التعايش. ذلك هو الذي حصل لنا. فرحنا بالإستقلال العسكري حتى لو كان على صورة هبات وليس ثمرة مقاومات. ثم جهلنا أن ذلك الإستقلال المزعوم كان مقايضة وضيعة بإحتلال ثقافي فكري تكون فيه الدولة غير وفية لهويتنا بصورة أو بأخرى ( شنيعة ضارية في تونس مثلا ولكنها ناعمة في الخليج مثلا ). لا زلت أعتقد أن عدونا أذكى منا بسنوات ضوئية. نحن نقاوم بأجسادنا وهو يقاومنا بفكره والجسد لا يهزم الفكر أبدا. نحن هضمنا الوجود الماركسي الشيوعي ومختلف الإنتاجات المادية الغربية وإعتبرنا ذلك تنوعا وتعددا وحرية وديمقراطية حتى وذلك الإنتاج المادي الغربي يرقص فوق أنقاض هويتنا. تلك هي الخطيئة الكبرى في إستيعاب قانون التعدد. عرف تاريخنا وكذا ديننا التعدد الديني والمذهبي والفكري ولم يضق به أبدا البتة بل جعل من ذلك محطة قوة. أما ما دون ذلك من التعدد من مثل التعدد الإلهي فضلا عن إنكاره جمله وتفصيلا كما يفعل هؤلاء ونهضم نحن ذلك ببلاهة وسذاجة ربما لم يعرف التاريخ مثلها فإنما هو إحتلال فكري ثقافي يخصم هويتنا ومن خصمت هويته خصم من فوق الأرض ولا شماتة. حتى بعد مضي أزيد من نصف قرن كامل فإن تأثيرات المذهب المادي الغربي بكل ألوانه لا تزال فاعلة وخاصة في الدولة التي تكره الناس على البيعة وتؤمم الحقل السياسي وتصادر الحرية التي هي مقصد الإسلام الأعظم. الثورة تحرر وحرية وإنعتاق ولا يقبل عقلي أبدا أن يتحرر شعب يقبل أي لون من ألوان الإنتاج المادي الغربي مكونا من مكونات النسيج الإجتماعي أو الثقافي أو السياسي حتى لو كان ذلك بإسم الديمقراطية لأن الديمقراطية التي تأتي لنا بخصم هويتنا فلا أهلا بها ولا سهلا ولا مرحبا. هذا أمر يتحمل علماء الدين وزره دون غيرهم.

كيف نتحرر إذن؟

هذا سؤال عملي حقه التأخر حتى نتواضع على مقاربة فكرية أما قبل ذلك فهو لهو أطفال. يجب أن نقر بداية أننا في حالة إحتلال دولي مباشر وشبه مباشر وهو إحتلال جامع ومحكم فهو عسكري هناك وإقتصادي هنا وسياسي إستراتيجي هنالك. كما يجب أن نقر أن الموازين الدولية منخرمة بصورة كبيرة ومعقدة لغير مشروعنا وليس مشروعنا ديني بداية كما يظن الحمقى منا وفينا بل مشروعنا تحرري جامع والفرق بينهما كبير فالأول قومي والثاني إنساني والإسلام لا يقدم القومي على الإنساني أبدا. كما يجب أن نقر أن عائقين كبيرين سيظلان يجهضان أي ثورة قابلة ما لم نعمل على إزاحتهما وهما العائق القومي الذي يؤخر وحدتنا العربية بالتدريج الإقليمي أو بالسعي الكنفدرالي بالتعبير المعاصر إذ لا يتحرر شعب ممزق بمثل ما لا ينهض جسم معوق وثانيهما العائق الفكري الثقافي الذي يجعل من سقفنا ملونا بإسم التعدد. السقوف لا تلون ولا تتعدد فمن تلون سقفه أو تعدد سقفه خر عليه سقفه وإنما يتعدد ما هو تحت السقف وما هو دونه. المعنى العملي لهذا الكلام هو أن الثورة العربية المجهضة هي ثورة بيضاء كمقابلة بيضاء أي لا تحستب نتائجها ولكن يقترب كل طرف فيها من معرفة وزنه الحقيقي إستعدادا لنزال قابل.

تعال إلى منهاج المقارنة.

لم أكن أنوي الإسهاب ولكن جررت إليه. في مثل هذا لا بد لنا من اللجوء إلى إعمال منهاج المقارنة. لا أظن عاقلا يجادل في أن أكبر ثورة عرفها عصرنا الراهن هي الثورة الأروبية ( الثورة الفرنسية واحدة منها فحسب ) التي تطاحن فيها أساقفة الكنيسة متحالفين مع القيصرية المالكة والحاكمة ضد رموز العلم هناك وهو ما أثمر إنتصار المعرفة العلمية على الدجل الديني الكنسي حتى وهو محمي بعصا القيصر الغليظة وهو ما أثمر أيضا بلسان آخر العالمانية واللائكية وجاء بالديمقراطية حلا توافقيا تضع به الحرب أوزارها فيئة إلى عقد إجتماعي نظر له رجال من مثل جون جاك روسو. منهاج المقارنة هنا لولا الخشية من الإسهاب مناسب جدا لأن التدافع العربي اليوم شبيه بذلك بصورة كبيرة جدا. أفيئ إلى الخلاصة تجنبا للإسهاب الذي لا يريده القارئ لأقول أن أوربا المنتصرة اليوم بقوتها ومالها وإدارتها وحرياتها حتى لو كانت حريات عنصرية مركزية لا تجاوز تخوم الرجل الأبيض إنما أنجحت ثورتها بفعل عامل كبير محدد إسمه : التواضع من لدن المتطاحنين على كلمة سواء هي كلمة حسم الهوية الفكرية والإنتماء الثقافي للأمة الأروبية ومن بعد ذلك الحسم فإن الخطوات العملية الأخرى تولد في إبانها بتدرج لا مغامرة فيه. ومن بعد النجاح في تلك الخطوة الفكرية العملاقة ذهبت أروبا بعيدا في السنوات الأخيرة أي إلى مباشرة العامل الثاني المحدد وهو عامل الوحدة الأوربية ماليا وإقتصاديا ثم عملة أيضا. أكثر ما يثير إهتمامي في الأمر هو أن أوربا التي حسمت هويتها الفكرية ثم حسمت وحدتها التكافلية إنما تتقدم على ذلك الدرب وهي تقص أجنحة " اليسار " الشيوعي في معقله الروسي وتخومه قطرا من بعد قطر. هل تعرف معنى ذلك؟ معنى ذلك هو أن الغرب حسم أو هو في طريق حسم ذلك مسلكه الثقافي حتى لو كان ذلك على حساب جناحه الشرقي إدراكا منه ذكيا جدا أن التقدم لا يكون على طريق مفتوح حتى يحسم طريقه الفكري أولا أي يحسم هويته الثقافية أولا. أدركوا ذلك المفتاح ففعلوه فنجحوا وتقدموا وجهلنا نحن ذلك المفتاح فهضمنا ذلك الجناح الأروبي الشرقي بإسم التعدد فتعثرت مناهج التغيير الإصلاحي عندنا كلها واحدة من بعد الأخرى : الديمقراطية بين مؤمن بها وبين كافر حتى داستها دبابات باريس في الجزائر. الإنقلاب العسكري لم يكن له فينا إلا رجل واحد هو المشير سوار الذهب ثم آلت الإنقلابات العسكرية في الستينات والسبعينات بإسم تحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية إلى التصهين ودعم التجزئة. الإصلاح المجتمعي كلما نضج أو قارب النضج عاجلته الدولة العربية البوليسية بضربة تعوق مسيرته لسنوات أو عقود. حتى الثورة … حتى الثورة … أجل. والله. حتى الثورة سرقوها منا ونحن نحلم بها. حتى الثورة فجعنا فيها. ألمنا كمن رزق بولد أوحد فلما بلغ معه السعي وقد بلغه الكبر إختطفه العدو منه وتركه أثكل.
ذلك مبلغي من المعرفة. ذلك هو حديث نفسي الذي يضرم في النار بالصبح والعشي ورب العزة. أظن أنه صواب ولكنه يحتمل الخطأ قطعا فهل لي بشريك يعلم ويعلم أنه يعلم وهو متواضع. بل ملتاع مثلي. شريك يبثني وأبثه.

أجل. سرقت منا ثورتنا البيضاء .. وهل لنا براءة في الزبر حتى نحلم بثورة بيضاء؟
كلا. الثورة البيضاء مآلها الوأد. أما اللون الأصلي الحقيقي للثورة فهي الحمرة القانية..
أجل. هو كلام يضيق به السياسيون و الديمقراطيون والتائهون بين سفاح القمم بإسم التوافق..
أجل. أفقي الذهني أكبر من السياسة وأوسع من الديمقراطية..
كلا. لن أيأس لا من الثورة ولا من الديمقراطية ولا من الإصلاح المجتمعي...

الهادي بريك تونس
28420944
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.