لا شكّ بأن ثورة الشعب التونسي قد ضاعت هباء، وعادت عقارب الساعة الى ما قبل 17 ديسمبر، فبعد كلّ التضحيات بالغالي والنفيس خرج الأموات ليدلوا بأصواتهم لصالح مرشّح وحيد يمثل النظام القديم بشقيه النقابي والتجمع، وتبين بأن الجمهورية التي طمحنا الى تأسيسها لم تكن سوى افتكاك وحوز، بالدم والرصاص والترهيب النفسي. خيبة الشعب كانت كبيرة، فالانتخابات الرئاسية "الحرة والنزيهة" كانت مزورة بامتياز ! . حتى الأموات قد صوّتوا للمرشح الهرم بعد ان غادروا قبورهم التي سكونها منذ سنوات الستين، حجم الفضيحة المعلن عنها كان اكبر من تبريرات هيئة الانتخابات، التي يبدو انها وقعت في فخّ النظام القديم، فتأكيدات اهالي "الأموات"، الذين حضروا وصوّتوا في الانتخابات، وما ادلوا به من وثائق يؤكد بان التزوير حصل فعلا، الى ان يأتي اليقين الذي لن يأتي ابدا. وعلى قياس المثل الشعبي التونسي القائل "الجواب (أي الرسالة) من عنوانها"، فلا شكّ بأن ما حصل في الانتخابات الرئاسية مخجل ومقزّز للجميع، لأنّ الدور الأول منها حمل الينا 27 مرشحا ثبت على اغلبيتهم تزوير تزكية ابناء الشعب لهم بعد ان تمت سرقة معطياتهم الشخصية، ناهيك على "الورقة الدوارة" التي فعلت العجائب في تحويل أصوات الناخبين في اتجاه واحد. حيث ان عنوان الرسالة كان واضحا منذ البداية، وهو سنزوّر الانتخابات لنفتك الدولة ونصنع الجمهورية التي نريد. هذه الجمهورية التي يريدها النظام القديم بشقيه ليست سوى جمهورية "الحوز والتصرّف"، على غرار "الأراضي الاشتراكية" التي تدّعي الدولة ملكيتها، ويقوم المواطنون بحيازتها والتصرف فيها، ليفتكونها لاحقا بحكم الزمن. فقد اعتمد نظام "الحوز" لافتكاك دولة الشعب الى فتح باب الإرهاب والترهيب والاغتيال السياسي، لفرض طريق واحد يمشي تحت رصاصه المواطنون مكرهين، الا وهو طريق الخوف، ثم قاموا بتزوير كل المحطات الانتخابية لافتكاك كلّ مفاصل الدولة، وهو ما حصل فعلا. ولعل من بوادر دكتاتورية جمهورية الحوز في أولّ بداياتها هو ايقاف الناشط المدني ياسين العياري وسجنه لمدة ثلاثة سجن نافذة من التنفيذ العاجل، من اجل اراءه ومواقفه السياسية التى تتناقض من النظام القديم وكل رموزه. هي البداية فقط، والعشرات تنتظرهم شكاوى عديدة ووعود بالسجن والتشريد. ما يحز في القلب لدى شرائح شعبية كبيرة انها راهنت على بعض الأحزاب لتحقيق أهداف الثورة، الا انها وجدتها تقف في جانب النظام القديم، لتسقط كل الثورة دون رجعة. د. محجوب احمد قاهري / تونس