تونس: المجال الإبداعي يضم ما يناهز 120 ألف شاب يعتمدون على العمل الحر كمصدر رزق أساسي    منوبة: افتتاح موسم جني الزيتون    الاتحاد الأوروبي يدعو إلى احترام وقف إطلاق النار في غزة..#خبر_عاجل    عاجل: إعصار ميليسا يضرب كوبا بقوة ما صارتش قبل!    بطولة افريقيا للتجديف الشاطئي: فضية في زوجي الكبريات وبرونزية في زوجي الاكابر    تحذير عاجل: ريحة الفم تكشف أمراض خفية في بدنك!    تونس: الفاتورة الإلكترونية ستشمل هذه المهن    الكاف: المهرجان الاقليمي لنوادي الأطفال المتنقلة    تونس تعين كمركز تميز كايزان في مؤتمر "إفريقيا كايزان 2025" بجوهانسبورغ    العثور على 48 كيسا تحتوي على بقايا بشرية في مقبرة جماعية قرب غوادالاخارا    أربع تتويجات تونسية في مهرجان مدنين السينمائي الدولي    طبرقة: حجز 170 ''بالة فريب'' معدّة للتهريب    عاجل/ وفاة تونسي في حادث مرور بالحدود الليبية    جندوبة: استحثاث نسق ثلاثة مشاريع في البنية التحتية    معز الشرقي يودع بطولة براتيسلافا للتنس    عاجل: حفل تكريم الفائزين بالبطولة الوطنية للمطالعة في بن عروس...لا تفوتوا الحدث!    عاجل : مفاجأة جديدة في عملية سرقة متحف اللوفر بفرنسا    صادم/ حالة وفاة كل دقيقة بسبب الحرارة    عاجل: الدولة باش ترفع في الأجور شنيا الحكاية؟    هذه أسعار رحلات العُمرة الاقتصادية..    وفاء الصغروني بطلة العالم في التايكواندو    تصفيات مونديال 2026 - مباريات الملحق الافريقي مابين 13 و16 نوفمبر المقبل بالرباط    افتتاح مهرجان مسرح التجريب بمدنين    عاجل/ تحديد موعد دربي العاصمة..    بعثة نسائية تونسيّة إلى السعودية: لقاءات بالجملة دعما للمبادلات الاقتصادية    وكالة فيتش: البنوك التونسية تواجه ضغوطًا اقتصادية تحدّ من النمو والربحية    لاول مرة في مستشفى جهوي: نجاح عملية استئصال ورم دماغي    أمريكا تدعو رعاياها الى مغادرة هذه الدولة.. #خبر_عاجل    تحذير عاجل لمستخدمي Gmail: أكثر من 183 مليون كلمة مرور مسروقة...هاو كيفاش تحمي روحك    مونديال كرة اليد تحت 17 سنة: المنتخب الوطني يلاقي نظيره البرازيلي ضمن الدور الترتيبي    تنشط بين هذه الولايات: تفكيك شبكة لتهريب المخدرات تستغلّ سيارات إسعاف أجنبية    تونس: أصحاب الشهائد يطالبون بانتداب دفعة أولى من المعطلين في بداية 2026    الرابطة الأولى: تشكيلة الإتحاد المنستيري في مواجهة إتحاد بن قردان    ولاية منوبة تعلن عن موعد نشر القائمة النهائية لتراخيص سيارات "التاكسي الفردي "    علاش تونس اختارت تنتج أمّهات الدواجن؟    فيلم "ريح السد" للنوري بوزيد يعود للقاعات في نسخة مرممة بعد أربعين سنة من عرضه الأول    إطاحة بمروج مخدرات في خزندار وحجز مبالغ مالية وأدوات الترويج    جريمة قتل مروّعة بهذه الجهة والقاتل طفل ال15 عاما.. #خبر_عاجل    زعبوب لزبير بية : رئيس النجم لا يستأذن من مشغّله في أبو ظبي لحضور مباراة    الرابطة الأولى: برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    ابتداءً من الخميس: تحويل جزئي لحركة المرور على جسر لاكانيا    طقس اليوم: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    إغلاق نهائي لسينما "جميل" بالمنزه 6... نهاية مرحلة وبقاء الأثر    تونس: وزارة التربية تنشر فيديو توضيحي لعملية التسجيل في كونكور السيزيام والنوفيام    عاجل: إذا ما عملت حتى عملية على حسابك الجاري.. البنك يسكروا تلقائيا بعد 3 شهور    عاجل: تراجع انتشار فيروس كورونا بعد ظهور المتحوّر ''أوميكرون''    كيفاش تعرف إذا كان عندك سكتة دماغية؟ أهم الأعراض اللي لازم تعرفها!    البيت الأبيض يستعين بمسلسل شهير.. لانتقاد الديمقراطيين    طقس اليوم: ارتفاع طفيف في درجات الحرارة    قابس: حملة "أوقفوا التلوث" تؤكد التمسك بتفكيك الوحدات وتدعو الي مسيرة شعبية يوم 31 أكتوبر    دراسة تحذر: النوم تحت الأنوار قد يسبب أمراض القلب    باجة: الدورة التاسعة لمهرجان الرمان بتستور من 29 اكتوبر الى 2 نوفمبر    عاجل: وفاة مفاجئة لنجم التيك توك...شكون؟    أولا وأخيرا: خلاص الفاتورة في الدورة    ملتقى حول الشيخ الطاهر بن عاشور    بالفيديو : صوت ملائكي للطفل محمد عامر يؤذن ويقرأ الفاتحة ويأسر قلوب التونسيين...من هو؟    مصر.. تعطل الدراسة في 38 مدرسة حرصا على سلامة التلاميذ    زحل المهيب: أمسية فلكية لا تفوت بتونس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوعي والجمال - سلطان البنوي
نشر في الحوار نت يوم 09 - 04 - 2015

طُرح الذوق كمفهوم في التراث الإسلامي في ثنايا مناظرات الفرق الإسلامية حول "التحسين والتقبيح العقليين" بصدد تحريرهم لمحل النزاع بينهم، لكن بمصطلحات مختلفة، إذ ذهب كثير من المتكلمين إلى إمكانية إدراك العقل حسن وقبح بعض الأشياء وإن كان اختلافهم في الأصل متعلق بربط الفعل باستحقاق العقاب أو الثواب من عدمه، ولعل هذا الربط الاستحقاقي للفعل حوّل مجرى المناظرات لدرب ديني أخلاقي، لكنه أكّد على عدة أمور مهمة سأذكرها تباعاً، ومن ثم لم يبحثوا طبيعة الذوق من ناحية نظرية جمالية بطريقة أكثر تفصيلاً، إذ ذكر بعضهم - مُجمِلاً- أن الحسن هو الكمال والقبح هو النقص، وذهب آخرون إلى أن الحسن هو النافع، والقبح بخلافه، ويرجع هذا التعالق بين الحسن والكمال أو بين القبح والنقص إلى أن طبيعة الدين نفسه تجاوزية غائية، بمعنى أن المعتقد الديني يوجب "علّة تامة" خارج العالم المشاهد لنا هو الله -عز وجل- جمع صفات الكمال والجلال، ومن ثم فإن أي حسن أو جمال يُنسب له تعالى، كما ورد في الحديث الصحيح "وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". ووجود القبح في الأشياء كوجود الشر في العالم؛ نسبي لا مطلق. إن التأكيد على أسبقية مفهوم "الغاية" لملكة الذوق الجمالي يربطها بالرؤية الدينية للمتذوق، إذ الجمال كمفهوم لابد له من مرجعية معيارية تؤسس له قاعدة فكرية محددة، ومن ثم يتشكل الوعي بالجميل فطرياً وتنظيمياً، إذ الوعي بالجميل إدراكٌ لجوانب الكمال والنقص فيه. لكن أحد إشكالات الرغبة المحمومة بالكمال أنها تورث تأزماً لا واعياً بالنقص، ومن سكنت نفسه إلى الرؤية التكاملية رضيت وهدأت. ومبدأ الغائية أصيل في الطبيعة الإنسانية قبل أن يكون منظم لملكة الحكم الجمالي، ويحدد الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" وظيفة الغائية وعلاقتها بملكة الحكم الجمالي بربطها بين الوجود والقانون الأخلاقي في الإنسان، إذ يرى أن البرهان الوجودي بحد ذاته ليس بإمكانه إثبات وجود الإله أو نفيه، رغم إثباته أن الإنسان غاية نهائية للطبيعة". وبهذه الطريقة تملأ الغائية الأخلاقية ما تفتقر إليه الغائية الطبيعية، وتؤسس قبل أي شيء آخر لاهوتاً (1)، فملكة الحكم الجمالي تفتقر لغائية تشكّل وتنظّم الأحكام والآراء الجمالية حول الأشياء، وذلك يتأسس وفقاً للقانون الأخلاقي.
ولذلك يرى كانط تبعية الدين للأخلاق والإرادة الخيّرة في الإنسان، و"لا مجال للشك في أن كانط أقام نظريته الأخلاقية العلمانية على قواعد دينية مع إدخال الصنعة عليها، حيث استبدل الإنسان مكان الإله مع قياس أحكامه على أحكامه، إذن ليس لهذه النظرية من وصف العلمانية إلا الظاهر(2).
يرى المتبصر أن تشكّل الذوق الجمالي مبنيٌ أخلاقياً بالدين قبل أي شيء آخر، و"كانط نفسه يعتبر الذوق علامة على طابع أخلاقي، وأنه يساهم في ترقّي الخلقيّة(3)، وهو بذلك يؤسس بطريقة غير مباشرة فلسفة تواصلية أخلاقية تقصي شذوذ الأفكار ما بعد الحداثية وتبني نمطاً أخلاقياً دينياً للذوق، فإن أحد أهم سمات "ما بعد الحداثة"؛ نقض الأنماط التفسيرية الكبرى وتضخيم الفردانية، ومن ثمة تشظي المعايير والأحكام، وتوهان الذات عن عالمها، فلا تفرّق بين الجميل والقبيح، والخيّر والشر، كما قال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ( (المنافقون: 3).

الجميل كتمظهر إيديولوجي
تتسم الإيديولوجيا بكونها رؤية للعالم ونمط للتفكير يرسم حدودا للوعي لا يسمح له بتجاوزها، ويستلزم من ذلك وصفه بأنه وعي زائف، والتزييف ينتج التنميط والتحديد الذي هو نتاج عملية التسلط وتقوية رؤى معينة دون غيرها، وبذلك تكون الإيديولوجيا معياراً قبلياً للحكم الذوقي الجمالي، وليس قبلياً خالصاً بالطبع، إذ شرط القبلي الخالص عدم السبق على التجربة بخلاف الإيديولوجيا التي تخوض في التجربة الإنسانية مؤثرة ومتأثرة، فتأثيرها على عملية التذوق هو رسم لحدود الجميل والمبهر بوصفه وعياً، فيتأطر الوعي بالجميل بتأطر إمكانات المرء المعرفية التي تحددها الإيديولوجيا. لذلك فإن منطق التساؤل في عملية تكوين الوعي مهمة في إعادة رسم رقعة الوعي وتوسيعها، ومن ثم إعادة هيكلة مفهوم الجمال في الوعي.
فإدراك جماليات الأشياء من حولنا تحتاج زرعاً لبذرة الإمكان الجمالي، فإن طبيعة الوعي تحيزية؛ بمعنى أن فعل التحيز يظهر بقدر ما يخفي، لذلك فإن فكرة "الإمكان الجمالي" يترك سؤال الكشف عن الجميل المتخفي مطروحاً بقوة، فلا يغلق رقعة الوعي فتكون بذلك إيديولوجيا .
إن إدراك جماليات الأشياء من حولنا جزء من توعية أنفسنا، فبقدر ما نعلم بقدر ما نرى جمال مخلوقات الله عز وجل، فالعلاقة بين الوعي والجمال علاقة طردية وعكسية، وجزء من التعبد لله تعالى التأمل في خلقه وإبداعه وصنعه، فما يفعل جاهل في وردة سوى تحطيمها، وما يفعل غافل في ألوان سوى تسويدها، ووجود حواس خمس للإنسان يؤكد أمرًا في غاية الأهمية؛ وهو أن إدراكنا للوجود ووعينا به لا ينبغي أن ينحصر في حاسة بصرية أو سمعية فقط، فتنحصر بذلك جماليات أخرى، فإن تنوع الآليات الإدراكية يوجب - من الناحية الدينية كما قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (العنكبوت: 20)- القدرة على توسيع مدارك الوعي، فإن حصر الوعي في حاسة واحدة يوجد قصورًا في الفهم وضمورًا في تهذيب النفس. وكذلك نقول في عملية التذوق الجمالي، فإنها نتاج وعينا، فإذا قصر الوعي قصر الذوق الإنساني !
يربط كثير من الناس بين الجميل واللذة؛ فكل ما ينتج لذة فهو جميل حسب رؤيته القاصرة، غير أن بينهما فرقًا جوهريًا يكمن في أن اللذة رغبة ذرائعية استغلالية بخلاف ملكة الذوق الجمالي فإنها خالية من الذرائعية والاستغلالية، فكما يحلو لفيلسوف التنوير أن يقول "الجوع أحسن طباخ!"، فالفقير معرفيًا فقير جماليًا، فإذا أراد الإنسان تحسين الملكة الذوقية الخاصة به فإن ذلك يستلزم أمورًا منها(1)؛ التخلي عن الذرائعية في إدراك الجمال؛ فليس كل ما نشتهيه جميل، وليس كل نبتغيه جميل.كذلك(2) إدراك أن تجليات الجمال قاصرة، فلا وجود لجمال مطلق كما لا وجود لقبح مطلق، ومن ثم فإن رؤيتنا للجمال تختلط بضده فتتمايز عنه، وبذلك تكون رؤية تكاملية(3) التجمل الذاتي؛ فإن من لا يلامس الجمال ويعايشه لا يستطيع تبينه ورؤيته.

معيارية الجميل
"لولا العقل لما أدركنا الجمال"؛ هذه بدهية رغم بساطتها، غير أنها تؤكد أمرًا تناسته الحضارة المعاصرة وهو أن الجمال كامن في ذاتية بعض الأشياء بغض النظر عن رؤية الإنسان له، فأهل السنة يتفقون مع المعتزلة في أن الحسن والقبيح ذاتي في "بعض" تجليات الوجود والعقل كاشف له، إلا أن المعتزلة خالفت في أنها ربطت الجزاء بالحسن والقبيح العقلي، بغض النظر عن ورود النص الشرعي بالجزاء أو العقاب، وبذلك ندرك أن أحد معايير الجمال أنه ممكن الفهم والتعقل، بخلاف الرؤية العبثية لما بعد الحداثة التي ترى أن الجمال كالفن معياريته في ذاته، فنزعت بذلك السحر "الغائية" عن العالم كما يحلو لعالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن يغرد! ومن ثم يستطيع الإنسان ربط الجمال بالأخلاق الدينية وفقًا لرؤيته للغائية الكامنة فيهما.
وبما أن أس الجمال أخلاقي، وخاصية الإنسان "الأخلاقية" وليس "العقلانية"؛ فإننا نستطيع القول أنه بقدر نقصان الإنسان من التجمل تنقص إنسانيته. وقد أقر ضمنيًا بذلك فيلسوف التنوير إيمانويل كانط في كتابه "نقد ملكة الحكم".
تتسم الأفكار والأشياء الجمالية بخاصية عميقة؛ فهي رغم الوحدة الظاهرة فإنها تتخلق على نحو لا نهائي، فتشكل لنفسها رغم كلية القانون شخصية ذاتية تتفرد بها، فالتشابه لا ينبغي أن يقصي الفروقات، وهذا ما يلاحظه كذلك فلاسفة المنطق؛ إذ مفهوم الكلي عندهم لا يستلزم تطابقه مع التعينات خارج الذهن، فالإنسان خارج الذهن لا يوجد إلا متعينًا، بينما يوجد في الذهن كلي، فرغم التوحد لم نعدم التفرد.
يخلط البعض بين غموض الشيء وجماليته، إذ حتى لو أدخلنا الغموض كنوع من السامي في فلسفة الجمال، والسامي بطبيعته يخلق إبهاراً نفسانياً للمتلقي بخلاف الجمال الذي يهذب النفس ويطمئنها. إن هالة الغموض وإبهاره للرائي ترجع إلى أن الإنسان يرتبك حينما يحاول استخراج المعنى فالدلالة منه، فهو معنى يتخفى تحت تركيبات وطبقات من المعاني أو دلالات متعددة مفككة أو معنى ضل طريقه، ولذلك يعمل الغموض على سد سيل المعاني والدلالات الناتجة عن القدرة الإنسانية للتدليل، وهذا يخالف تأثير الجميل في النفس الإنسانية، فالإنسان مفتقر لنفحة جمالية ورحمة إلهية، فالوعي بالجمال بناء يستلزم أسس كما يستلزم مظاهر .

________________________
(1) نقد ملكة الحكم: 410
(2) سؤال الأخلاق: 40
(3) المثالية الألمانية: 2/830


منقول عن
مركز نماء للبحوث والدراسات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.