إن تجذر الفساد الاداري والمالي في بنية مؤسسات الدولة التونسية وتبلور هذه الظاهرة الخطيرة يجعل منها عقبة في طريق تقدم عملية التنمية بأصعدتها المختلفة وقد تفضي إلى الابتعاد عن الخطط والبرامج التنموية المرسومة . وبالرغم من القناعة الحاصلة بهذه الحقيقة ومن رفع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لشعار محاربة الفساد الاداري والمالي إلا أن أيا منها لم تمر لمرحلة التخطيط والتنفيذ في هذا الاتجاه، بل ذهبت للتماهي مع الفساد في أجوائها المؤقتة والمضطربة . وبذلك أصبحت محاربة الفساد مجرد شعارات انتخابية لا يصدقها الناخبون وذلك على الرغم من تأكيد الدراسات الاقتصادية على أهمية تأثير تراجع مستويات الفساد على تحسن معدلات النمو الاقتصادي ( ربح نقطتين على الاقل على مستوى مؤشر النمو الاقتصادي أي ما يكفي لخلق حوالي 34 ألف موطن شغل). وقد بدا جليا أن ملف الفساد قد طواه النسيان ردهة من الزمن ولم يصبح من الأولويات بعد تشتت اهتمام الرأي العام بين القضايا الثانوية. إلا ان تصريحات السيد سالم الابيض ، وزير التربية السابق ، ارجعت للعديد من التونسيين التساؤل الاصيل حول مآل شعارهم الثوري ألا وهو مدى جدية الحكومات المتعاقبة وصدق رغبتها في محاربة الفساد من جهة ، كما دفعت العديد من مكونات المجتمع المدني من جهة أخرى الى الدعوة الملحة الى ضرورة الإفراج عن ملفات الفساد وإلى نشر تقارير هيئات الرقابة العامة الثلاث خصوصا ، لما لنشر التقارير الرقابية من مزايا ، وعدم تركها حكرا على رجال السياسة يستعملونها في مناوراتهم الانتخابية ومعاركهم الاعلامية ، ومن الضروري التذكير بأهم المبادئ التالية :
1- نشر التقارير الرقابية : حق أصيل للتونسيين
أكدت العديد من مكونات المجتمع المدني على غرار جمعية أنا يقظ وجمعية المراقبين العموميين ان ما اشار اليه السيد سالم الابيض ليس الا غيضا من فيض وأن باقي الهياكل العمومية تحوي الكثير والكثير من مثل تلك الخروقات التي أشار إليها . وان التونسيين من حقهم التعرف على هذه الملفات في اطار حقهم الاصيل في معرفة مال ضرائبهم المدفوعة للدولة وبعيدا عن استعمال هذه الملفات في اطار المزايدات السياسية والفرقعات الاعلامية. وهو ما دفع منظمات المجتمع المدني إلى تجديد مطلبها القديم بضرورة نشر تقارير الرقابة الادارية والمالية الصادرة عن مختلف الهياكل الرقابة بعيدا عن الاستغلال السياسي لهذه الملفات وخدمة لمجهودات محاربة الفساد الاداري والمالي بالدولة التونسية وغيرها من المزايا. إن نشر تقارير الرقابة هي عملية فنية بالأساس ولكنها تتطلب قرارا سياسيا جريئا وإرادة وطنية صادقة باتجاه الإصلاح . 2- نشر التقارير الرقابية: عملية لها مزايا
إن تحقيق الغرض من نشر التقارير الرقابية يتوقف بالأساس على مدى تفعيل دور الإعلام والقنوات الفضائية والصحافة وتشريكها في قضايا معالجة الفساد الاداري والمالي بما سيدفع المواطنين ومكونات المجتمع المدني الفاعلة إلى المساهمة في نشر القيم والأخلاقيات الوظيفية والعمل بمبدأ الشفافية ووضع المعلومات في متناول المواطنين. · إن نشر تقارير الرقابة وما تحتويه من اخلالات ادارية ومالية هو من اهم اليات كشف منظومات الفساد وسوء التصرف ، وفي هذا الاطار نذكر تجربة الهند التي قامت على نشر التقارير الرقابية في مجال التهرب الجبائي بشكل واسع حيث تخصصت قنوات تلفزية عمومية وخاصة في نشر ملفات الفساد وكشف اسماء الفاسدين وهو ما ساهم في الحد من مستويات التهرب الجبائي. · نشر تقارير الرقابة الادارية والمالية سيساهم حتما في ايجاد شعور وطني بضرورة الاصلاح المؤسساتي ، يتعهد الجميع بالعمل به وباتخاذ الخطوات اللازمة للتغيير الشامل من خلال الدفع باتجاه وضع اليات ملائمة لمحاربة الفساد بكل انواعه والعمل بمبدأ الشفافية ووضع المعلومات في متناول المواطنين. · نشر التقارير يساهم أيضا في لفت نظر قوى الضغط و الهياكل المعنية بالقضايا الحكومية للدفع باتجاه الإصلاح وفي تحفيز الرؤساء المباشرين للمؤسسات لمزيد دعم منظومة الرقابة الداخلية بهياكلهم وإرساء الاصلاحات الهيكلية والتنظيمية اللازمة . · نشر تقارير الرقابة يساهم في تغيير البنى الإدارية والعقلية المنغلقة خاصة على مستوى الهياكل العمومية، وهي البنى التي ترى في الإصلاح تجاوزاً ، وفتح أبواب جديدة لمفاهيم لم تعتد عليها المنظومة التقليدية والتي تتحفظ على تنفيذ عملية الإصلاح ومواجهة ظاهرة الفساد والاعتراف بها. · نشر التقارير الرقابية سيمكن السلطة التشريعية من تحسين محتوى جلسات المساءلة البرلمانية وتوجيهها نحو العناصر المهمة ، كما يمكّن السلطة التشريعية من تفعيل المراقبة الحقيقية لسير السلطة التنفيذية وهو الدور الاصيل لمجلس النواب ، لذلك عادة ما تكون هياكل الرقابة في الأنظمة الأنكلوسكسونية تحت سلطة البرلمان بما يجعلها تسائل الحكومات على بصيرة ، وبما يفتح الباب للجماهير من دافعي الضرائب بدورهم للاطلاع على مآلات أموالهم وأوجه إنفاقها . · نشر تقارير الرقابية سيدفع هياكل الرقابة نفسها الى مزيد تحسين ادائها كما وكيفا حيث ستصبح هذه الهياكل وما تنجزه من تقارير وما تتضمنه من توصيات محل متابعة من قبل مكونات المجتمع والسلطة التشريعية وهو ما سيدفعها حتما إلى مزيد من المهنية والموضوعية والإجادة عند انجاز اعمالها ، كما سيساهم نشر التقارير في مزيد تحفيز المراقبين الذين سيرون مآلات انتاجهم الفكري وهي تساهم بصورة مباشرة في عملية الإصلاح . · نشر تقارير الرقابة سيمكن من تقييم اداء هياكل الرقابة وتحقيق شفافيتها وموضوعية أعضائها في إطار مقاربة بين ما تستدعيه مجهودات الرقابة من تكاليف والنتائج المسجلة و هو ما يدفعها بالضرورة الى تحسين ادائها · نشر تقارير الرقابة سيكون بمثابة اعتماد مقاربة تشاركية بين مختلف السلط و عموم المواطنين في اعتماد وتركيز الاصلاحات الضرورية بمختلف مؤسسات الدولة. حيث ستكون توصيات هيئات الرقابة محل متابعة وطنية ستساعد متخذي القرار على تركيز الاصلاحات اللازمة وتشجع المواطنين والأعوان وعملة الفكر والساعد على الانخراط في هذا الجهد الإصلاحي. وفي الختام لابد من التأكيد ان كل مزايا نشر التقارير الرقابية ترتبط اساسا بمدى الاستقلالية التي تتمتع بها الهياكل الرقابية في نقل صورة حقيقية عن مؤسسات الدولة في الحدود المتعارف عليها للشفافية ووفق الضوابط والمعايير الدولية المتعارف عليها والتي تحقق الهدف من عملية النشر دون تشهير أو انتهاك أو إضرار بالمصلحة العامة .