الجشع للمال والسلطة يحول البشر إلى وحوش كاسرة ومصاصي دماء في غياب الرادع الأخلاقي والقانوني وهيبة الدولة وفي ظل انتشار الفساد والمحسوبية والفوضى في كل مجالات الحياة بحيث يصبح المجتمع غابة تتقاسمها الأسود والذئاب والكلاب السائبة ولا مكان فيها للخرفان الوديعة والنعاج الضاحكة. وأخطر أنواع اللصوصية هو السرقة بالحيلة وباستعمال القانون ولي ذراع الاجراءات وشراء الذمم والضغط على الأفراد بشتى الوسائل والاغراءات المالية المتنوعة والتهرب من تنفيذ الاحكام والتعطيل المتعمد لحصول المستحقين على الحقوق والانتفاع بموارد الدولة والوظائف والامتيازات بغير وجه حق. وما أكثر الذين انتفعوا بقروض من البنوك دون ضمانات بتدخل من السلط العليا وتم غض الطرف عنهم فلم يسددوا ما عليهم ولم تتم مصادرة أملاكهم مثلما يقع عادة في مثل هذه الوضعيات والغريب أن صغار الموظفين يقومون بالواجب ولا يرحمهم أحدا عندما يخطئون وتنزل عليهم الأحكام بلا شفقة ويسجنون وتتشرد عائلاتهم في الكثير من الأحيان. وكم من قوانين عفو أتت لتمحو الجرائم البينة في حق المجتمع والدولة فأعادت للصوص المال العام والخاص والمتجاوزين للقانون والمعتدين على هيبة الدولة والمنقلبين على سلطتها القائمة عذريتهم ونظفت ماضيهم الأسود بل منحتهم من كرمها الحاتمي التعويضات المجزية بدون حق ومكنتهم الثورة التي لم يساهموا فيها قط من الوصول إلى السلطة وجعلتهم أسيادا يصولون ويجولون فيشرعون ويفتون وبثروة البلاد يلعبون.
وفي ظل هذا التحول العجيب على مستوى الحكم والسلطة وسخاء الدولة الفاقدة للرؤيا ووحدة القرار بحيث أصبحت الثروة بيد القلة توزعها على الموالين والمتنفذين والمحسوبين عليها وتسن القوانين على هواها خدمة للمصالح الحزبية والفئوية فتعطي من جيب المواطنين البسطاء للأغنياء وتغض الطرف عن أصحاب المال والثروات الطائلة بل تمكنهم بالقانون من التهرب من الإيفاء باستحقاقاتهم. ولا غرو أن التهريب والفساد المالي والتهرب الجبائي يقدر حسب الخبراء بأرقام مفزعة وكبيرة يمكن أن تتجاوز ميزانية الدولة بطم طميمها دون أن تحرك الدوائر الرسمية ساكنا وكل المحاولات بقيت محتشمة وفي حدود رفع العتب وذر الرماد في العيون وكأن هناك رؤوسا وحيتانا كبيرة وراء الأمر. فألغاز ثورتنا المجيدة التي قام بها البسطاء والكادحين والمهمشين من أجل الحرية والعيش الكريم لم تبح بعد بحقائقها المؤلمة وقد اختلطت المفاهيم والأحداث المتلاحقة بسرعة عجيبة بالأوهام والأحلام فضاعت البوصلة عن المواطن الذي يلاحق إكراهات الواقع بين مرارة الخيبة والخوف من المستقبل. وقد سكنت النفوس الجشعة للسلطة والمال لذة الكراسي والتمتع بالمال العام دون جهد وكفاءة فقط بعض الجدل الخطابي والعلاقات المريبة بالداخل والخارج والانتماء لدوائر لعبة المصالح والاستراتيجيات الخفية بحيث ظهرت الشخوص فجأة بدون مقدمات وركبت الحدث دون رصيد يذكر وكأننا في بلاد السحر والعجائب والأساطير. وانفتحت البلاد وهي على الدوام بدون نوافذ وحدود جغرافية حصينة بحيث تأتيها الغزوات على مر التاريخ فاتحة وقاهرة مثلما تهب رياح الشمال وتعبرها طيور النورس والخطاف فكانت محل جذب لكل المغامرين والانتهازيين والمقامرين في غفلة من أهلها الطيبين المسالمين. وعندما بدأ بعض النيام يفيقون من غفوتهم وجدوا اللصوص في كل مكان وبيدهم الحل والعقد فلا مكان لغير الحلفاء والخلان وأصحاب الجاه والمال وقد تبددت الثروة في الولائم والتعويضات والملتقيات والسفرات فأفلست الدولة ولم تنفع الديون الخارجية من إنقاذها من ورطتها العويصة. والساسة يجوبون البلاد عرضا وطولا كالذي يحرث في البحر لأن الثقة قد انعدمت بين أهل القمة والقاعدة بعد طول انتظار فلم يروا شيئا يتحقق على أرض الواقع غير فتات الكلام والوعود الكاذبة بحيث مازالوا ينتظرون أن تدر عليهم السماء الذهب والفضة. ومن فوق الكراسي المتأرجحة بدأ لغط الأعذار واتهام العاملين والكادحين بقلة الانتاجية والرغبة في العمل والظروف الدولية الصعبة ومشكلة الارهاب وهلم جرا دون أن تتم محاسبة النفس ومراجعة الأخطاء وتصويب المسار والاعتراف بفشل النظام السياسي المعتمد على المحاصصة الحزبية ودكتاتورية التوافق وغياب المشاريع الحقيقية والثورية في نفس الوقت. ويترعرع اللصوص ولو باسم القانون وفي غياب العقلنة والحكمة ويتمددون في كل مفاصل الدولة فيتمتعون بمظلة الأحزاب الجائعة للمال ويحصلون على الحصانة من المتابعات القانونية والمحاسبة الجزائية بل يحصلون على تبييض أموالهم الفاسدة والتسهيلات في بعث المشاريع الوهمية . فلعبة الأحزاب الطامحة للسلطة على حساب المبادئ والاخلاق والوعود الانتخابية مع المال السياسي جعلت من الحياة السياسية سوقا فاسدة وموبوءة وخالية من النبل والاحترام بحيث تفتت الكثير من الأحزاب واندثرت البقية فقد غابت المصداقية عن مشاريعها فكسدت سلعتها البائرة بسرعة كبيرة. وسبب فشل النظام السياسي الحالي في القيام بدوره وتحقيق التنمية والرفاهية للشعب والحرية والكرامة هو لأنه نظام هلامي يصعب وصفه وتحديد ملامحه وطريقة أخذ القرارات فيه ومراجعه الأساسية عند الاختلاف. فهو نظام بدون ضوابط قيمية وبدون ديناميكية داخلية تمكنه من تحقيق الأهداف في غياب المشاريع الواضحة والرؤيا المستقبلية بحيث هناك مقاربات مختلفة لشيوخ الأحزاب والمنظمات كدولة الطوائف بالضبط مما يعطل أخذ القرار المناسب في الوقت المناسب وتمكين أناس غير أكفاء للوصول للمناصب العليا بحكم انتماءاتهم وولاءاتهم لا غير. وهكذا تتدحرج فاعلية الانجاز وتتخلى الأغلبية الصامتة والمنبوذة والمجمدة عن التفاعل الإيجابي مع القرارات العشوائية المتخذة فيقل الانتاج والانتاجية لأن الظروف غير ملائمة من الناحية النفسية والتنظيمية. وهكذا تتحول الدولة الفاشلة إلى دولة اللصوص لتنهش لحمها ثم عظامها وتتركها فريسة للغربان وآكلي الجيف حتى تتعفن وتصبح رائحتها لا تطاق فيبقى من يبقى من العقارب والثعابين ويهرب من يهرب بجلده لأرض الله الواسعة ولكل نفس في الحياة نصيب.