هجمة شرسة وحصار خانق استهدف دولة قطر الإمارة الخليجية الصغيرة في حجمها والكبيرة في تأثيرها فقد رماها كثير من جيرانها والأباعد عن قوس واحدة بهدف تركيعها وإملاء شروط مذلّة عليها كي يقبلوا بها في منتظمهم مجددا، ورغم أن الأمر كان متوقعا ولم يكن مستبعدا ولكنه مع ذلك فاجأ كثيرين، والسؤال الذي يُطرح لماذا قطر ولماذا الآن؟ وهو ما نحاول التفاعل معه والإجابة عليه. قطر كانت دولة خليجية صغيرة وهامشية لا يكاد يُسمع لها ركزا ولا يعرفها كثير من العرب والمسلمين فضلا عن الأعاجم والغربيين حتى التقطت الإمارة فرصة التخلي السعودي عن دعم القسم العربي لقناة "البي بي سي" فجمعت شتات صحفييه وجعلت منهم النواة الأولى لمشروع قناة الجزيرة على الأرض القطرية مانحة إياهم هامشا كبيرا في مجال حرية الإعلام و"الرأي والرأي الآخر" " فكانت "الجزيرة" جزيرة بما تعنيه الكلمة منذ تأسيسها سنة 1996 وسط بحر من إعلام الزعماء والسلاطين الذين لم يتعودوا غير سماع المديح والثناء من إعلامهم وإعلام جيرانهم ... "وطال عمر مولانا وليّ الأمر الذي طاعته واجبة والخروج عليه حرام والتظاهر ضده بدعة محرّمة والدعاء له سنّة مؤكدة"! ولم تتردّد القناة في "طرح القضايا التي قد لا تروق للبعض أحيانا" فهاج "هذا البعض" من المحيط إلى الخليج ومكروا بها لوأدها في مهدها وتكرّرت محاولاتهم. صمدت الجزيرة حتى اشتد عودها وتوسعت في أرجاء الكون، ورغم كثرة نقادها إلا أن المعجبين بها أكثر وأصبحت هي القناة المفضلة عند عامة الشعوب العربية الباحثة عن الأخبار والتحليلات المنافية للروايات الرسمية. خصوم الجزيرة كثيرون وكل من لا يجد فيها هواه أو تتعرض له بنقد يصبح عدوّا لها وللدولة الموجودة على أرضها، ناعتا لها بأبشع الأوصاف وأقذع النعوت وراميا لها بتهمة العمالة لهذا الطرف أو ذاك. ولسنا بصدد الدفاع عن قطر أو ذراعها الإعلامية الطولى فربما لهما من الأهداف ما جهلنا وما لا نقرّ دون تحفّظ، ولكنّنا نريد أن نفهم بموضوعة، ورغم بعض المآخذ المعلومة وغير المسقطة فإن الحلف ضد الجزيرة يشرح شيئا من المسألة ذلك أن القاعدة المعروفة تقول "صديق عدوّي عدوّ لي وعدوّ عدوّي صديق لي" فإن هذه القاعدة قد تكسرت وتهمشت في الموقف من الجزيرة، واجتمع عليها الأعداء وخصومهم، فأدعياء المقاومة يرونها عدوّة متآمرة ضدهم وأنصار التطبيع كذلك! فما الذي فعلته الجزيرة؟ منذ تأسيسها كسرت الطوق الذي ضربته الأنظمة على شعوبها وفتحت برامجها الحوارية ليشارك فيها أصحاب الرأي المخالف والمعارضون السياسيون من كل الألوان الإيديولوجية والطوائف والأعراق. أيام الحصار الجائر على العراق كانت الجزيرة تنقل معاناة الأطفال والأسر بسبب فقد الدواء والغذاء وتندد بالجريمة الدولية ضد شعب العراق. أيام الحرب على العراق أصبحت الجزيرة في عيون الحلفاء وأعداء صدّام قناة "بعثية" صدّامية عراقية! أيام الحرب على أفغانستان عقب تفجيرات 11 سبتمر أصبحت القناة "طالبانية" أفغانية! أيام الحرب بين الاحتلال الصهيوني وحزب الله في لبنان أصبحت القناة "شيعية نصرلاّوية" لبنانية! أيام حصار ياسر عرفات في رام الله وهجوم الإحتلال على الضفة الغربية وخلال ملحمة جنين أصبحت القناة فتحاوية تحريرية فلسطينية! أيام الحرب على قطاع غزّة أصبحت القناة "حمساوية" غزاوية فلسطينية! أيام التضييق على إيران بسبب مشروعها النووي أصبحت القناة فارسية "إيرانية"! أيام ثورة الشعوب ضد حكامها المستبدة أصبحت القناة تونسية، مصرية، ليبية، يمنية، سورية! أيام انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب وارتكابه للجرائم ضد الإنسانية أصبحت القناة "إخوانية ربعاوية" مصرية! أيام محاولة الإنقلاب العسكري الفاشل على الرئيس المنتخب رجب طيّب أردقان في تركيا أصبحت القناة أردقانية تركية! ولما تحالف الإيرانيون والروس وحزب الله مع بشار الأسد لتقتيل الشعب السوري كانت القناة ضد البراميل المتفجرة والدماء المستباحة وأصبحت شعبية سورية! وهنا قد يأتي من يقول ليست هذه هي المهنية الإعلامية والأصل أن الإعلام النزيه يكون على نفس المسافة من كل الأطراف المتخاصة أو المتحاربة. والجواب أنه ليس هناك وسيلة إعلامية ليس لها أهداف أو برامج، والمهنية لا تعني الحياد وإنما الصدق والموضوية وعدم التهويل في نقل الأخبار أو التهوين! أما أن يكون للإعلامي أو المؤسسة الإعلامية موقفا واضحا غير مصرح فذلك أمر عادي! وليس مطلوبا من الإعلامي أن يكون على نفس المسافة بين الجلاد والضحية أو بين الطيّار الذي يقصف والأشلاء التي مزقها! وقد كانت قناة الجزيرة معبّرة بحق عن وصف الصحافة بأنها مهنة المتاعب فليس هناك قناة عربية استشهد منها صحفيون أواعتقلوا أو اختطفوا بحجم ما حدث مع صحفيي الجزيرة ولعلها من ذوات المراتب الأولى عالميا في هذا المجال. وإذا كانت هذه هي أبرز سمات الأداء الإعلامي للقناة وأنها مغضوب عليها من الإحتلال والأنظمة والقوى الدولية ومن الشيعة والسنة ومن البعثيين والسلفيين، ومن الأجوار والأغراب فمعنى ذلك أنها تقف في الوسط. في البداية كانت القناة "هبة" قطر ولكن قطر هي التي أصبحت "هبة" للقناة بعد أن أصبح ذكر قطر يتردد في كل مكان في العالم وبعد أن أصبحت القناة مرجعا رئيسيا للأخبار لكل وسائل الإعلام العالمية خاصة فيما تعلق بأخبار المنطقة العربية ومناطق النزاع والحروب. وبالقناة كَبُر دور الإمارة وتوسع حجمها وهو ما نقمه منها جيرانها "الكبار" في مساحاتهم الصغار في مواقفهم وأعمالهم، فلم ير منهم مواطنوهم أو المواطن العربي غير الأفعال الدنيئة ومساندة الاستبداد ووأد آمال الشعوب في التحرر والمكر بالثورات السلمية وبنتائج صناديق الإقتراع وضخ ميليارات الدولارات في سبيل ذلك، وإلصاق تهمة الإرهاب بأحزاب وجماعات كبرى أبعد ما تكون في أدبياتها وممارساتها عن الإرهاب! في حين نجد "دويلة" قطر في الضفة الأخرى تدعم آمال الشعوب في التحرر وتساند الثورات ولا تمكر بنتائج الصندوق أو بما توافق عليه الناس وتستثمر في إرادة الجماهير! وتعارض الانقلابات وتشهر بها، وتدعم الفلسطينيين على أرضهم وتؤوي قادتهم الذين ضاقت بهم أرض بقية "العربان"! وعندما نجد أن الحصار على قطر لتقزيمها ووأد صوتها الإعلامي الصادح قد دُبّر بليل حضره "ترامب" وباركه الصهاينة وأثنوا عليه وعلى "اعتدال" السعودية وشارك فيه دحلان وآل نهيان وخلفان وكلاء الصهيونية في المنطقة فليس أمام أصحاب المبادئ والمواقف الثابتة إلا أن يتضامنوا مع قطر ومع قناة الجزيرة المستهدفة الأولى من "إعلان الحرب" المسمى حصارا ديبلوماسيا ( برّا وبحرا وجوّا) وهو تضامن من باب المعذرة إلى الله والتاريخ، حتّى وإن نجح الخصوم في مرادهم وتحقق لهم مكرهم إلى حين لا قدّر الله! ورغم كل الانتقادات التي تُوجه لقطر من مثل أن قطر تدعم الديمقراطية وهي ليست دولة ديمقراطية وأنها تدعم الإعلام الحرّ الموجّه للخارج وإعلامها ليس حرّا، ومن مثل وجود قاعدة أمريكية على أراضيها أو وجود شكل من أشكال التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني فتبقى قطر من أفضل دول المنطقة لما قدّمته وتقدمه من دعم مادي ومعني للشعوب العربية الثائرة على الإستبداد وما قدمت من دعم للحكومات التي عقبت تلك الثورات ومن اصطفافها ضدّ الثورات المضادة وداعميها، وهو أساس التحالف ضدها بطلب "سيسي" تدعمه اللوبيات الصهيونية المتنفذة في العالم والتي تساوم به أصحاب العروش الهاوية كي يستمروا في عروشهم! أما بعض "النخب" العربية عموما والتونسية خصوصا المتشدقين بالمقاومة والناقمين على قطر والجزيرة ووصفها بأنها شيطان العصر والكون فإن مواقفهم مفضوحة ومكشوفة ذلك أن ما ذكر من انتقادات لقطر أو الجزيرة ليست جديدة وإنما هي قديمة وهم لم يروها حينها وحين كانوا يمدون أعناقهم ويبحثون على الوساطات لزيارة قطر والمشاركة في برامج الجزيرة، وإنهم إذ يشهرون بها الآن فذلك فقط لأن قطر لم تدعم ثوراتهم المضادة ولأنها أعربت عن استعدادها لدعم الذين أفرزتهم الصناديق حتى وإن كانوا من الإسلاميين! وتلك هي مواقفهم الإنتهازية! بعض هذه "النخبة" التي هي في الحقيقة نكبة من نكبات الأمة لا يقبلون حتى بمجرد الخلاف في الرأي والتقييم ويكذبون بأن كل من له موقف إيجابيّ من تركيا أو قطر أو الجزيرة هو مصلحيّ منتفع باع ذمته ويقبض الثمن في حين أن التهمة موجهة لهم أكثر وعليها في كثير من الأحيان أدلة ومع ذلك نختم بالقول في ردّ هذه التهمة الباطلة "تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على بائعي ذممهم القابضين بالدينار والدولار من سماسرة المبادئ والمقاومة والعمالة"!! ... هذا إن كان الابتهال إلى الله واللعن يعني لهم شيئا أو هو موجود في قاموسهم أصلا! وخلافه لن تكونوا أجرأ منا في باطلكم الذي ترونه حقّا، على حقنا الذي ترونه باطلا! طه البعزاوي 9 جوان 2017