أطرح سؤالا عليكم... أستفيد من إجابتكم عليه كي أنطلق!... ليُحدّثني كلّ واحد منكم عن فرحة في حياته تركت فيه آثارا!... نعم!... جميل!... ممتع!... ممتاز!... طريف!... ها قد استمعت إليكم وعلّقت على أفراحكم، فهي جميلة ممتعة ممتازة طريفة!... وبقي أن تعرفوا أنّ فرحة الانتقال من الدهاليز إلى السجن قد تعادل أو هي تفوق أفراح كلّ ما تكرّمتم بذكره من مناسبات!... ففي السجن تتّسع الغُرَف... ويكبر عديد النّاس... وتكثر الحركة بوجود الساحة (لاريا: Area)... وفي السجن سجّانون "ملائكة" إذا ما قورنوا بأبناء الدّهاليز، دون خلوّ ال"ملائكة" من أبناء الدهاليز!... وفي السجن سماء واسعة وشمس تتبختر فيها وسحب إذا ما اكفهرّت تغطّيها وماء مطر ينسكب منها ونهار يُسلخُ فيأتي الليل يغطّيها وبالنجوم ينيرها ويرقّيها!... وفي السجن أذان يتسلّل من أبواق المساجد الحانيّة عليه، الزّاحفة بأمثالنا إليه!... وفي السجن قرآن كريم وحفظة متنافسون وأناشيد جميلة ومنشدون مبدعون وكتب وقرّاء ومطالعون وكتبة على التأليف يتمرّسون!... وفي السجن تقوية تعارف وتعرّف وتنميّة حبّ وتصليب علاقات واجتماع عائلات وزيارات أسبوعيّة جرت بها وقتها العادات... وفي السجن أكثر ممّا ذكرت بما لا يرغّب فيه وبما لا يجعلك تخرج منه وأنت تشتهيه!... فإنّي مقارن بينه وبين دهاليز ترهق العبد وتفنيه!...
تتأقلم مع الحياة في السجن شيئا فشيئا!... وسوف يزول استغرابُك بالملاحظة، فلا تستكثر عدد المفاتيح التي يفخر بحملها السجّان!... فأبواب السجن خمسة أو هي ستّة!... الرّئيسي ظاهره وباطنه وابن الرّئيسي وباب لاريا الخارجي وباب لاريا الدّاخلي وباب الغرفة!... وسوف تتفهّم سلوك السجّانين معك وطريقة خطابهم لك أيّها النّزيل غير العادي!... فما تعوّدوا قبل وجودنا احترام النّاس بل تربّوا على إهانة النّزلاء (نزلاء السّجن) وتنميّة الأمراض الحسيّة والاجتماعيّة فيهم!... فخير أحوال النّزيل إقامة مستمرّة!... فإنّه إذا دُعي أوذي... فلا بدّ أن يمرّ خروجا ودخولا بعقبة "طبّس وكحّ" أي "انحنِ واسعل"!... ويفعل ذلك عاريا كما ولدته أمّه إرضاء لشذوذ لا أعلم مصدره!... ولذلك فلمّا فقد السجّان هذه الميزة معنا شعر المسكين بالضيم وانحسار السلطة!... ثمّ لقد كان من التقليد تحيّة السجّان!... وقد كانت مقاومتنا لذلك بدعة لا يمكن تمريرها!... لذلك جوبهت بشدّة وتجنّدوا كلّهم لتمريها!... وفّقنا الله تعالى إلى دعوتهم إلى التعقّل بالرّجوع إلى القوانين!... نحن ضبّاط لا نحيّي من هو أقلّ منّا رتبة!... حتّى لو كنّا أسرى حرب، كما تقول ذلك اتفاقيات جونيف!... جاء العمّ جلّول رحمه الله، مدير السجن يومئذ!... بادرت بتحيّته!... إنّه رائد وكنت نقيبا!... وأمّا أنتم فلا أحيّيكم!... فتحيّتكم استهانة برتبنا، بل لعلّها استهانة برتبة مدير السجن!... حيّدت العمّ جلّول!... بُهتوا!... قدّروا... عن مضض وغلبة قبلوا!... لن تكون التحيّة إذن إلّا لمن يفوقنا رتبة!... وجدوا لاغتصاب التحيّة طريقة بأيّة حال أرضتهم!... كانوا يبادروننا بالتحيّة فنردّ عليهم بتحيّة أحسن منها!...
نزلنا مقدمنا من الدّاخليّة بجناح (E)... ثمّ بعد مدّة نُقلنا إلى جناح (D)!... كانت أيّاما حُلوة بنكهة السجن، طيّبة بوجود الوجوه المؤمنة الصادقة وباجتماعنا جميعا فيه!... ثمّ ما لبث القرار السجنيّ أن جاء مفرّقا للجماعات!... وكذلك يفعلون!... فوزّعونا على أكثر من جناح!... وقد كان في ذلك خير وإن خفي!... فنقل البعض منّا إلى جناح (H) والبعض الآخر إلى (C) في حين استمرّت البقيّة بالجناح (D)!...