عاجل/ حكم من أجل تهمة ارهابية ب19 سنة سجنا: تفاصيل قضية منذر الزنايدي..    هام/ فتح باب الترشح للحصول على رخص "لواج"..وهذه التفاصيل..    النفطي يدعو السفراء وممثلي البعثات الدبلوماسية الى دعم ترويج زيت الزيتون    برنامج التأهيل الصناعي للمؤسسات: المصادقة على 484 ملف خلال سنة 2025    قبل لقاء "أوغندا": ماذا يقول مدرب المنتخب سامي الطرابلسي..    Ooredoo تونس تحتفي بكأس أمم إفريقيا من خلال مهرجان منطقة المشجعين "دار الفوت"    مناظرة هامة لوزارة الداخلية..    عاجل/بداية من اليوم.. لا "تاكسيات" مساء بهذه الولاية..    ثقب أسود عملاق .. علماء الفلك يعلنون عن تفاصيل هذا الاكتشاف    منوبة: القرية الحرفية بالدندان تكتسي حُلّة جديدة مع تهيئة المدخل في انتظار ادراجها ضمن المسلك السياحي    أزمة "الكنام" والصيادلة..تطورات جديدة..#خبر_عاجل    صفاقس: إنطلاق خدمات الشباك الموحد لإتمام إجراءات السفر لاداء فريضة الحج    تصنيف الفيفا: المنتخب التونسي يتراجع..    وزارة الشؤون الدينية تحدد 30 ديسمبر كاخر أجل لاتمام اجراءات الحج    Bitget Wallet: أفضل محفظة عملات رقمية ساخنة    عاجل: ال SONEDE تضع أجهزة TPE لخلاص الفواتير    عاجل : جامعة التعلم الاساسي تلغي الإضراب القطاعي المقرر يوم 26 جانفي    مقتل قائد بارز في الجيش الروسي بانفجار سيارة في موسكو    بسمة بوسيل تقاضي عرافة ...و السبب تامر حسني ؟    الصيدلية المركزية التونسية تعلن رزنامة توقف التزويد بالأدوية والتلاقيح والأمصال بمناسبة الجرد السنوي 2025    سيدي بوزيد: 267 تلميذا يستفيدون من البرنامج الوطني للرحلات المدرسية    كأس أمم إفريقيا: الملعب الأولمبي بالرباط مسرحا لمباراة تونس و اوغندا    سليانة: تقديرات بإنتاج 95 ألف طن من الزيتون    تأخير النظر في قضيتي مروان المبروك    كأس أمم إفريقيا: مصر تبحث عن إنطلاقة قوية أمام زيمبابوي    ممرضة تصاب بحروق بليغة بعد إغمائها..هذه حقيقة ما صار بالضبط في مستشفى قفصة    البطولة العربية للاندية للكرة الطائرة: برنامج مباريات الدور الاول    لجان التحكيم تعترض على غياب دورها خلال حفل اختتام أيام قرطاج السينمائية    في رجب: أفضل الأدعية اليومية لي لازم تقراها    الحماية المدنية: 394 تدخّلا خلال ال 24 ساعة الماضية    طمعاً في الميراث: زوز خوات يستخدمو ''سلاح الأفاعي'' لقتل والدهما    العاصمة: 10 سنوات سجنًا لمسنّ تخصص في ترويج المخدرات    سعر الذهب يسجّل مستوى قياسيا جديدا    عاجل : إيقاف طبيبة تجميل مشهورة في مصر    عاجل: سفارة روسيا بتونس توضّح وضع طاقم المروحية الروسي-البيلاروسي في مطار جربة    وفاة الصُحفية باذاعة الكاف مروى جدعوني    وفاة الممثل الأمريكي جيمس رانسون انتحارا عن 46 عاما    زلزال بقوة 5.3 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    عاجل: تعرّف على طاقم تحكيم ماتش تونس وأوغندا في كأس إفريقيا    كنز غذائي على طبقك.. ماذا تفعل "السبانخ" بجسمك..؟    كيفاش تقيس ضغط الدم بطريقة صحيحة وتاخذ قراءة صحيحة؟    مخك في خطر؟ 6 علامات للاكتئاب ممكن تصيبك بالخرف    عاجل/ وضع حدا لحياته: انتحار هذا الممثل شنقا..    تحب تخلّص فاتورة الستاغ على أقساط؟ هاذم الشروط    ماتشوات كأس أمم افريقيا: شوف شكون ضدّ شكون..الوقت والقنوات    طقس اليوم: سحب كثيفة وأمطار رعدية منتظرة    وزارة الصحة تحث على التلقيح وتحذّر: النزلة الموسمية قد تشكّل خطرًا على الفئات الهشة    فضلات في كل مكان والبنية التحتية مهترئة في غياب الصيانة .. قُربة مملكة «الفراولة» والحرف اليدوية... مهملة    أولا وأخيرا: الولي الصالح سيدي المعلم    من قبلي إلى الأردن...الفنانة التونسية تتأهّل للدور النهائي لذي فويس    القطاع التصديري لتونس يستعيد زخمه في ظل التطلع الى دعم مرتقب خلال سنة 2026    اليوم: أقصر نهار في العام    اليوم: التوانسة يعيشوا الإنقلاب الشتوي    مهرجان المنصف بالحاج يحي لفنون العرائس ومسرح الطفل من 21 إلى 28 ديسمبر 2025    ثلاثة فائزين في المسابقة الشّعرية المغاربية لبيت الشّعر بالقيروان    عاجل : وفاة الفنانة المصرية سمية الألفي    خطبة الجمعة ..طلب الرزق الحلال واجب على كل مسلم ومسلمة    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إرهاصات الانقلاب
نشر في الحوار نت يوم 02 - 08 - 2021

سأتوقّف اليوم عند خبرين أو تصرّفين حرّيين بالمتابعة والتّدقيق من أجل فهم الأحداث ومحاولة ردّ الفعل النّاجع لمنع المزيد من التّدهور ومنع الانقلاب على الثّورة ومنجزاتها.
أمّا الخبر الأوّل فيعود تاريخه إلى الخميس 19 نوفمبر 2020، فقد أكّدت يومها مديرة الدّيوان الرّئاسي نادية عكاشة، في جلسة استماع لها بلجنة الحقوق والحرّيّات والعلاقات الخارجيّة بالبرلمان، أنّه تمّ التّرفيع في ميزانيّة رئاسة الجمهوريّة لسنة 2021 مقارنة بميزانيّة سنة 2020.
وأوضحت عكاشة، وفق بلاغ نشر على صفحة مجلس نوّاب الشّعب، أنّ ميزانيّة رئاسة الجمهوريّة ارتفعت مقارنة بميزانية 2020 بالأساس في قسم التأجير وذلك تطبيقا لمقتضيات أوامر حكوميّة تتعلّق بالزّيادة في الأجور. كما ارتفعت أيضا نفقات التّسيير بنسبة 1.8 مليون دينار موجّهة أساسا للأمن الرّئاسيّ.
وأشارت الى أنّ وزارة الماليّة مكّنت رئاسة الجمهوريّة بمبادرة منها بزيادة قدرها 8.5 ملايين دينار بعنوان قمة الفرنكوفونيّة، مؤكّدة في الآن نفسه أنّ رئاسة الجمهوريّة حريصة على التّرشيد في نفقاتها لتستجيب فقط للحاجيات الضّروريّة.
وأكّدت في هذا الجانب على ثوابت رئاسة الجمهوريّة المتمثّلة في حسن التّصرّف في مال الشّعب والمحافظة على المال العام، وهو حرص تجلّى من خلال الضّغط على النّفقات وحسن توظيف الميزانيّة، وفق تعبيرها.
وأوضحت أنّ الميزانيّة تقوم على التّصرّف حسب الأهداف والمتمثّلة في تنشيط الدّيبلوماسيّة وترسيخ ثقافة الحوار والانخراط في المجهود العالميّ لمقاومة الإرهاب ودعم العلاقات الخارجيّة والاستشراف والتّخطيط الاستراتيجي وتدعيم الأمن القوميّ الشّامل ومتعدّد الأبعاد وحسن تمثيل الجمهورية التونسيّة ودعم العلاقات الخارجيّة.

فزيادة ميزانيّة الرّئاسة تمّت زمن الكوفيد ووقت تراجع مداخيل البلاد نتيجة الجائحة ونتيجة الإضرابات العاملة على ضرب الاقتصاد وتحميل "الحاكم" مآلات التّدهور العامّ في البلاد. والزّيادة حسب النّاطقة جاءت أساسا نتيجة الزّيادة في الأجور الخارجة عن نطاق الرّئاسة؛ إذ الحكومة هي من زادت الأجور زيادة خارجة عن نطاقها؛ إذ الاتّحاد هو من فرض الزّيادة وأرسى البطالة محافظة كما يقول دائما على الطّبقة الشّغيلة وخدمة للشّعب. وجاءت كذلك كما قالت "الوزيرة" دعما للأمن الرّئاسيّ، في مناخ ربّما فقد فيه الرّئيس الثّقة في أمن البلاد الجمهوريّ، سيّما ومزاجه لا ينسجم مع كلّ ما هو جمهوريّ أو دستوريّ منذ اليوم الذي دخل فيه القصر، فلا بدّ له من أمن قويّ يحمي قصره ويحمي رئاسته. وقد لفت انتباهي في التّصريح مبادرة وزير الماليّة وتمكين الرّئاسة بمبادرة منه (كما أكّدت، درءًا للشّبهات) من 8.5 ملايين دينار بعنوان قمّة الفرنكفونيّة. فهذه القمّة الدّهليز التي وقع بها إذلال البلاد بجريمة فُرضت على الجميع مُوّلت بعرق الشّعب الذي تفرّغ بغباء وبعمليّة الإلهاء الدّقيقة التي توخّاها القصر "راعي الشّعب" إلى الاعتداء على نوّابه وعلى الحكومة والتّشنيع بسلوكهم والتّحديث برواتبهم "الخياليّة" المرتفعة، فقد كلّفوا الخزينة التّونسيّة جراية سنويّة مقدارها 8593200، متجاوزين – سامحهم الله على جشعهم - قمّة الفرونكفونيّة (8500000) "خادمة البلاد، مرقّيتها" بثلاثة وتسعين مليونا ومائتي دينارا كاملة. كان عليهم لو صلحوا الاقتداء برئاسة الجمهوريّة، فإنّها لمّا طلبت الزّيادة وزادت كانت حريصة – كما بيّنت النّاطقة – على التّرشيد في نفقاتها لتستجيب فقط للحاجيات الضّروريّة لخدمة الشّعب التي منها "قمّة الفرنكفونيّة" هذه. فقد كانت – كما تقول بعض المصادر – برّا للكبار (بورقيبة والباجي) وكانت وفاء لعهد قطعه الباجي على نفسه والتزم بتنفيذه، وما كان موته يمنع إمضاءه، فنحن قوم ملتزمون منضبطون لا يلعن لاحقُهم غابرَهم. كان على الشّعب أن ينتبه إلى هذه المفارقات فيلاحظ كيف يفي رئيسهم لفرنسا بعهد قطعه الأموات على نفوسهم ويتذلّل لها وكيف يخون عهدا أمضاء بالقسم على كتاب الله تعالى ويتكبّر على مواطنيه ويتعالى على نوابهم ولا يحترم دستورهم ولا ينفّذ ما التزم به أمامهم، ولكنّ الشّابّي لمّا مات رحمه الله مات يردّد:
أنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّور
وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
أَنْتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ
حواليكَ دون مسٍّ وجَبَّسِ

بيّنت النّاطقة أنّ الميزانيّة تقوم حسب الأهداف، فلم يسألها أحد عن الأهداف. بيّنتها فوضعت حولها الطّلاسم والهيبة بالتّعويم والتّعميم، فهي أهداف ديبلوماسيّة وثقافية، وهي انخراط في المجهود العالميّ لمقاومة الإرهاب، سيّما والإرهاب قد سكن مجلس النّواب كما أسرّت وأضمرت، وهي إلى ذلك علاقات خارجيّة واستشراف وتخطيط استراتيجيّ بدأت بعض بوادره تطفو على السّاحة، وهي تدعيم للأمن القوميّ الشّامل الذي لا يكون إلّا بتوسيع صلاحيات القصر والنّفخ في القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، وهي حسن تمثيل الجمهوريّة التّونسيّة لدى أشقّاء استبشعوا وجه تونس الثّوريّ، وهي دعم العلاقات الخارجيّة التي كان في مقدّمتها العلاقات بأبطال الثّورات المضادّة في الخليج وفي البلاد المصريّة.

وأمّا الخبر الثّاني فيعود تاريخُه إلى يوم السّبت 10 جويلية، حيث أفادت وزارة الدّفاع المصريّة في بيان لها، بأنّ مصر أرسلت مساعدات طبّيّة إلى تونس، وقالت الوزارة في بيانها: "تنفيذا لتوجيهات الرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي وفي إطار دعم وتضامن مصر مع الشّعب التّونسيّ في مختلف المحن والأزمات، أقلعت طائرتا نقل عسكريّتين من قاعدة شرق القاهرة الجوّيّة محمّلة بشحنات من الأدوية والأجهزة والمستلزمات الطبّيّة مقدّمة من وزارة الصّحّة والسّكان إلى الشّعب التّونسيّ الشّقيق للمساهمة في تخفيف الأعباء عن كاهل المواطنين التّونسيّين".
كان على التّونسيّين – وهم في الجائحة – أن يذكروا أنّ هذا الدّعيّ السّيسي في نفسه جائحة، أكلت الأخضر واليابس في مصر وأتت على الثّورة التي كانت أخذت نَفَسها من الثّورة التّونسيّة. كان عليهم أن يستذكروا أخلاق العرب الذين خلّدوا (تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها)، فيفهموا من الوصيّة مضمونها وهو عدم التّعامل مع اللّئام ولا يتوقّفوا عند حروفها فقد كانت الثُّديّ عندهم عُرفا وكانت المرضعات يتردّدن على مكّة لاستجلاب الرّضّع الرّاغب أهلهم في بيئة البادية الصّحّيّة، وهو ما جعلنا نتعرّف على حليمة السّعديّة أمّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالرّضاعة. فلم يكن العيب إذن في الرّضاعة العُرف ولا في الثُّديّ ولكن كان العيب فيما يتشبّه به ممّا يجانب العزّة والكرامة.
فالتّعامل مع المنقلبين على الشّرعيّة يُذهب الكرامة ويمحي المروءة وينشّط أسباب الرّيبة والشّكوك، وقد أخلّ سعيّد بكرامة التّونسيّين وأذلّ ثورتهم لمّا ذهب إلى القاهرة وتعامل مع مجرمها القاهر أو مع معارفه السّاقطين كما تتناقل بعض المصادر. فإنّ السّيسي عليه وعلى من يتعامل معه ما يستحقّون عميل للكيان المحتلّ لفلسطين الأسيرة بشهادة الكيان نفسه، وما كان يجدر بسعيّد وهو يعلن في حملته الانتخابيّة تجريم التّطبيع أن يتمسّح ويتقرّب ويتذلّل للعميل البيّن، حتّى انطلق أحد أفراد الكيان، الصّحافي "إدوارد حاييم كوهين" كما نقلت بعض المصادر الإعلاميّة (أنباء تونس مثالا) يتحدّاه أن يقول مرّة ثانية أنّ التّطبيع مع إسرائيل خيانة عظمى وجعل ثمن التّحدّي والرّهان إسلامه والتمسّح بأستار الكعبة الشّريفة. تحدّاه لمّا علم تناوله مضادّات الرّجولة والكرامة التي يوجبها الجلوس على الكرسيّ الوثير المقعد.
كانت المساعدات طبّية، ولكنّها جاءت رغم ذلك تحت يافطة وزارة الدّفاع المصريّة، ويوم ساهمت تونس بما ساهمت لمساعدة إيطاليا بداية الجائحة وكانت حمولة المساعدة على متن طائرة عسكريّة، لم تُنسب المساعدات لوزارة الدّفاع بل كانت مساعدات مدنيّة. فالبيان إلى جانب ما يسبّب – نتيجة حساسيّة من الصّفة العسكريّة لنظام المجرم السّيسي الدّموي - من امتعاض، يجعل المتابع البصير يتمثّل هذه المساعدات الطّبيّة، التي خرجت طائراتها من نفس المطار المساعد لحفتر الصّائل. فلعلّ المساعدات كانت أسلحة وذخيرة، أو لعلّها كانت جلّادين وعناصر مخابرات، فقد كثر الحديث في الكواليس عن أعمال طالت رئيس الحكومة المشيشي شبيهة بمقدّمات ما وقع مع جمال خاشقجي رحمه الله تعالى، وقد كثر الحديث عن مستشارين في القصر يُسندون المستشارين فيه يلزمونهم حدودهم ويؤطّرون الرّئيس حبيب السّيسي ويوجّهونه، حتّى تكلّمت بعض المواقع عن تدخّل السّفير الأمريكيّ في البلاد ومطالبته بإخراج أولئك من القصر.
كان على الشّعب الذي ثار على المجرمين ألّا يرتاح لإرساليّات المجرمين، وكان عليهم التّحرّي فيها والتّساؤل عنها وعدم الاكتفاء برؤيتها تمرّر حاويات أمام عدسات التّصوير المدلّسة على الحقيقة، فقد كانت الأكياس البلاستيكيّة المعدّة للنّفايات تحوي جمال خاشقجي وقد قطّعته المناشير "المسلمة" مِلك خادم الحرمين.
كما كان عليهم أن ينظروا في مفهوم "الدّعم والتّضامن" ويتبيّنوه من خلال سلوك النّظام المصريّ المنقلب مع الجار، فإنّ غزّة مثلا (الجار اللّصيق) بحاجة تفوق مئات المرّات حاجتنا إلى الأدوية والمساعدات، فلِمَ لم يوجّهها إليهم ولِمَ لمْ يتساءل مسؤولونا مثل هذا التّساؤل قبل استلامها، ولِمَ لم يستحضروا سلوك النّظام المصري مع جيرانه الأقارب، فإنّه يحاصر غزّة المستغيثة ويُغرق أنفاق مجاهديها بماء البحر ويحكم على المتعاملين معها بالإعدام ويصف التّعامل معه بالخيانة العظمى، ويُطعم جنود الاحتلال زمن استعمال الفسفور الأبيض على الآمنين فيها، بل إنّه يُخلي سيناء من أهلها ويحطّم عَمارها ويناصر الخارجين على اللّيبيّين ويسندهم. لِمَ لم نتساءل الأسئلة البسيطة عن أسباب "حبّهم" لنا و"تضامنهم" معنا وهم يكرهون أهلهم ويحرّقونهم ويعدمونهم عبر المحاكم يوميّا وهم يسيؤون إلى جيرانهم المباشرين؟!
لقد خلّد الشّابي رحمه الله ما رآه بعض الظّاهريّة الحَرْفيّين مساسا بالعقيدة وانحرافا عن صحيحها.
إِذا الشَّعْبُ يومًا أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ
كان الشّابّي – كما يفعل بعض المثقّفين اليوم - يخاطب شعبه، يحذّرهم من القعود والخنوع واستمراء الحياة الميّتة، فما شعر به شعبه بل ظلّ يردّد قوله مباهيا يظنّ أنّ الخطاب لشعب آخر غير شعبه. وضع شعب الشّابّي عقله في بطنه وصيّر بطنه حاوية يُقذف فيها ما يُصمته دون اكتراث أو نظر في جودة أو نوع ما يُصمته.
سلوك محيّر وأكثر ما يحيّر فيه استرساله، كأنّك تتعامل مع نفس الشّعب الذي أمرض الشّابّي حتّى غادره رحمه الله سنة 1934، قد قتله اليأس من استيقاظه والأخذ بما يصلح شأنه، حتّى ردّد تحت لحده:
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا سالتْ
تَهُدُّ القبورَ رمسًا برمسِ
وقد كان قبل موته يردّد:
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّابًا
فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي
كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي
كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا شعبي
فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
فالشّعب بحاجة إلى ثورة النّفس أو بحاجة إلى ما يسمّيه التّعبير القرآنيّ تغيير النّفس أو تغيير ما بالنّفس. وأوّل التّغيير يبدأ بمعرفة النّفس وبأمراضها وأسباب أمراضها، ومن دقّق في ذلك وجد السّبب الرّئيسيّ في عدم معرفة الله جلّ وعلا، فإنّ ذلك يسهّل الاختراق ويكون العبد عرضة لكلّ ما يبئسه ولا يسعده.
كان على التّونسيّين أن يعرفوا الحقّ والباطل ليس بالإملاء ولكن من طريق معرفة الله تعالى. من نظر في كثرة الآراء في تونس (من خلال المنابر والموائد في الفضائيّات والمواقع الاجتماعيّة) أدرك أنّه بسبب غياب المرجع؛ إذ كيف نتحاور ونرغب في التّفاهم ونحن لا نملك قاعدة تُدار عليها حواراتنا ولا نعود للمرجع.
كان علينا أن نحدّد هُويتنا: هل نحن تونسيّون أم إماراتيّون أم فرنسيّون أم سيسيّون أم كما يسوّق بعضنا قطريّون وأتراك؟! هل نحن مسلمون أم نحن غير ذلك؟! هل نحن أصليّون أم نحن وافدون؟! هل نحن رجال (ذكورا وإناثا) أم نحن لئام إمّعة تابعون؟! هل نحن أهل فكر أم أهل سفاهة؟! هل نحن - على اختلافنا - متحابّون متضامنون أم نحن متباغضون تتنازعنا الأهواء فاشلون ضعفاء متدابرون؟! أسئلة كثيرة تؤسّس لنا المرجع الذي يحفظنا من الزّلل ويقينا آثار الاتّباع الأعمى.
ما نحن فيه اليوم وعليه لا يليق بأمّة بل لا يمكننا أن نكون به أمّة. عار أن يخرج منّا "مهلّلون" يمدحون عمل الخارجين عن الشّرعيّة التي دُفِعت من أجلها الأرواح وسالت فيها الدّماء. عار أن يتلهّى أناس منّا بالضّحك البليد السّفيه، وهم يرون تحطيم أبواب البيوت وهتك الأستار وانتهاك الحرمات، بل خروج عن السّمت التّونسيّ الإسلاميّ ذلك الانتشاء المجرم الذي عبّر عنه بعض من سكنوا ديارنا بارتفاع قهقهاتهم عند كلّ طعنة للقانون وعند كلّ اعتداء على الأخلاق.
يستعمل سعيّد والذين علّموه الاعتداء على منتخبيه عامل الوقت معمّلا على التّطبيع مع الأحداث والرّداءة واللّاشرعيّة، وهو استعمال قد رُهنت نجاعته بقيمة التّونسيّين ونظرتهم إلى الحياة الكريمة. فإن أرادوها - كما ندبهم إلى ذلك الشّابّي رحمه الله تعالى - استجاب لهم القدر فخنست الدّكتاتوريّة وجُعل كيدُ المجرمين في نحورهم وعاشوا في حرّيّة وكرامة، وإن هم استنكفوها أعادوا الدّكتاتوريّة فكانوا معاولها وبئسوا حتّى أثقلتهم بظلمهم اللعنات، ثمّ ظلّت أمعاؤهم تلسعهم لخوائها... والله من وراء القصد


عبدالحميد العدّاسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.