إنها مفارقة غريبة بل وشاذة أن تتجه دول أوروبا نحو الاتحاد.. في الوقت الذي تدفع فيه الدول العربية والإسلامية نحو التمزق والتشرذم والتفتيت!.. لقد مرت دول أوروبا بقرون طويلة من الحروب الدينية والقومية والاستعمارية.. والمذاهب الدينية في أوروبا هي ديانات منفصلة لكل منها "قانون للأديان".. ومع ذلك تتجه أوروبا نحو التكامل والاتحاد.. وعلى الرغم من أن دينها يدع ما لقيصر لقيصر، ويكتفي بالله خلاص الروح ومملكة السماء فإنهم يتحدثون عن القارة باعتبارها "ناديًا مسيحيًا"!.. بل إن الثلاثة المؤسسين للاتحاد الأوروبي الألماني "أديناور" (1876 1961م) والإيطالي "دي جاسبري" (1881 1954م) والفرنسي "شومان" (1886 1963م) كانوا قادة للأحزاب المسيحية الأوروبية ومن الكاثوليك المخلصين!.. أما دول العالم الإسلامي الست والخمسين! فإنها تملك "صيغة ذهبية" قدمها لها الإسلام.. صيغة التنوع والتعدد والتمايز في إطار الوحدة.. شعوب وقبائل في إطار وحدة الأمة.. ومذاهب وفلسفات في إطار وحدة الشريعة.. وألسنة ولغات وقوميات في إطار الجامعة الإسلامية.. وأقطار وأقاليم في إطار تكامل دار الإسلام.. ووطنيات وقوميات في إطار الانتماء الأول إلى الإسلام.. أي أنها صيغة جامعة دون قهر ولا نقل للتنوع والتمايز والتعدد والاختلاف.. ومع ذلك نشهد اليوم تصاعد النزاعات الطائفية التي تريد للطائفة الدينية أن تكون "شعبًا وأمة" تنكص على الأعتاب خمسة عشر قرنًا، لتغيير الخرائط والهويات!.. ومذاهب إسلامية تريد للمذهب أن يصبح دولة تفتح أبواب التشرذم والتناحر داخل دائرة الإسلام!.. وأعراقًا وقوميات تنسى تاريخ أسلافها في خدمة الإسلام وثقافته ولغة قرآنه، فتنكص على أعقابها إلى الجاهلية السابقة على هدايتها إلى الإسلام!.. وإذا كانت خارطة التشرذم القومي.. والتناحر الطائفي.. والنزعات المذهبية تكاد أن تغطي أرض عالم الإسلام، فيكفي أن نشير إلى "قضية القومية الكردية" التي تتجه بها الأحزاب العلمانية إلى التشرذم القومي، بدلاً من أن تستظل بمظلة "الحل الإسلامي" التي تتيح للأكراد كل ألواح الأزهار لجميع خصائصهم وسماتهم القومية في إطار الجامعة الإسلامية، كما كان حالهم وحال كل الأقوام والقوميات في التاريخ الإسلامي العريق والطويل.. إن الأحزاب العلمانية الكردية تنكص على أعقابها تحت الحماية الاستعمارية لتجعل من "القومية.. والتعصب القومي" بديلاً ونقيضًا لجامعة الإسلام.. حتى أن مدارسها وجامعاتها في شمال العراق منذ 1991م تخرج عشرات الألوف من الذين لم يدرسوا حرفًا واحدًا من لغة القرآن الكريم!.. مرتدين بذلك على تاريخهم المجيد في خدمة الإسلام ودولته والقرآن ولغته والشريعة الإسلامية وفقهها وثقافتها.. إن مرحلة التعصب والتشرذم القومي العربي.. والطوراني.. والكردي .. والفارسي كانت بداية للنكوص عن "حل الجامعة الإسلامية".. ولقد كان هذا التعصب القومي أثرًا من أثار التغريب وتقليد النزعة العنصرية للقوميات الأوروبية!.. ولقد أحسن القيادي والمثقف الكردي الدكتور محمود عثمان عندما شهد على هذه الحقيقة، فقال: إن مشكلتنا المعاصرة بدأت مع المشكلات المعاصرة لكل شعوب وقوميات المنطقة، في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية، فقبل التدخل الاستعمارية والتجزئة التي مزق بها الاستعماري العالم العربي والإسلامي، كانت الصيغة الإسلامية "أممية إسلامية" تتنوع فيها وتتمايز الشعوب والقبائل والأقوام والملل والنحل والمذاهب في إطار وحدة الأمة والحضارة والدار.. وبالتجزئة الاستعمارية، والفكر القومي العنصري أي المفاهيم الغربية الوافدة فتح الغرب الاستعماري الثغرات، وظل يسعى من خلالها لتفتيت العرب والمسلمين، ليلحقهم كشراذم وذرات وكهوامش وتوابع بنموذجه الحضاري. فالصيغة الإسلامية للتعايش التنوع في إطار الوحدة هي طوق النجاة للجميع".. فهل تجد هذه "الشهادة الكردية" آذانًا صاغية لدى العقلاء من كل المذاهب والطوائف والقوميات؟!..