بسم الله الرحمن الرحيم قراءة متأنية في أحداث صور الاستهزاء و السخرية بمقام النبوة كتبه ابراهيم بلكيلاني ( النرويج)
صور الاستهزاء و السخرية بالنبيء محمد صلى الله عليه و سلم ، عديدة و قد عايشها عليه أفضل الصلاة و السلام و واجهها بالصبر و المصابرة و الكلمة الحسنة و الدعوة بالحكمة ، و المنافحة بالحجة اليقينية النقلية و العقلية . و لم تخل حقبة زمنية منذ ظهور نور الحق في السلسلة النبوية الطاهرة منذ خلق سيدنا آدم عليه السلام ، من كيد و سخرية و رفض للحق . فقد رفع ابليس عليه اللعنة لواء السخرية و الاستهزاء و الرفض لاستخلاف الانسان في الارض . و عميت بصيرته و حاجج الذات الالهية تعالى الله في قدسيته و تقديره ، و قد دوّن الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم نص الحجج الابليسية ، تُتلى في كتاب لا يأتيه الباطل و لا تحرّفه الألسن . بل يتعدى الاستهزاء و السخرية في التاريخ الانساني ليكون آلية سياسية و أمنية ، استخدمت و لا تزال تستخدم في كل المعارك الفكرية و العقدية و السياسية ، و من جميع الفرق و الملل و المذاهب . بل يستخدم حتى داخل و بين أعضاء و أفراد الفرقة أو الملة الواحدة . و بحجة حرية التعبير توسع استخدام هذه الآلية و يتمترس الفاعل وراء الحجة الموهومة ، أما المنفعل فيُصوُر على أنه مستهدف لحرية التعبير و يُرمى بأوصاف تشكك في ايمانه بالحرية و قبول الرأي الآخر . يسعى هذا المقال إلى النظر في حوادث نشر صور جديدة في النرويج تنال من مقام النبئ محمد صلى الله عليه و سلم ، و قراءتها على ضوء ردود الأفعال و مآلاتها . 1. استهداف مقام النبوة في الأديان : تعتبر النبوة في جميع الأديان مقاما مهما و أسا عظيما . و ما يتميز به الاسلام أنه يؤمن بكل الأنبياء و المرسلين . و الايمان بهم جميعا ركن من أركان الايمان و فيصل بين الإيمان و اللا إيمان . و بما أن المنظومة الليبيرالية هي السائدة في الغرب و هي التي توجه الحياة العملية في جوانبها المختلفة . و هي على نقيض مع مقام النبوة الذي هو جسر من الوحي الالهي للانسان ، لتتقوّم حياة الانسان على تعاليمه . أما الليبيرالية تؤمن بأن الانسان وحده المتصرف في أفعاله و المنظم لقواعد الحياة و العلاقات و الدين في نظرها مسألة شخصية محضة . و نقض حاجة الانسان إلى الوحي ، سيظل من مهام الليبيرالية في صورها المختلفة . و في عرف و منطق الليبيرالية لا غيظ و لاجرم من الاستهزاء و السخرية من مقام النبوة الدينية . و في تقديرنا مما غفل عنه المسلمون في مواجهتهم لأحداث الاستهزاء و السخرية ، أنهم لم يبنو جسور التواصل و الانتقال من مقام الدفاع عن نبئ الاسلام إلى تحشيد الملل و الفرق كلها للدفاع عن مقام النبوة في صورته الكلية . و هذا يتطلب من المسلمين جهودا كبيرة في التعريف بالاسلام و نبيه عليه أفضل الصلاة و السلام . و التجربة في الغرب تؤكد بأنه كلما تقوقع فريق على نفسه و انفصل بقضاياه عن قضايا المجتمع ، إلا و كانت قضاياه عرضة لمزيد من الضعف و التراجع . و كلما أفلح فريق بالتعريف و وصل قضاياه بقضايا المجتمع ، كان أجدى و أحرى بالسداد . 2. استهداف التعايش الديني و العرقي : تشير الأحداث التالية لأية ردة فعل تجاه صور الاستهزاء و السخرية ، على أن استهداف مقام النبوة الشريف ، هو مطية و استفزاز و صيد لثغرات ردات الفعل ، تستهدف النيل و التشكيك في نمط التعايش الديني و العرقي السائد في اوربا و خاصة في الدول الاسكندنافية و في النرويج أساسا . هذا النمط المميز الذي تأمل الجالية المسلمة في النرويج أن تأخذ به بقية الدول الاوروبية . هذا النمط الذي يساوي في الحقوق و الواجبات بين جميع الديانات . و يمنح دعم مالي إلى كل جمعية دينية وفق عدد أعضائها ، بل تمنح مساعدة مالية إلى كل جمعية دينية تتجه إلى امتلاك مقر لها : شراء أو تشييدا و ذلك وفق آلية محددة تأخذ بعين الاعتبار عدد الأعضاء و مساحة المبنى . و كل امتياز للكنيسة ، يحق لأية مؤسسة دينية أخرى مهما كان دينها ، التمتع به . و مما يتميز به قانون الجمعيات الأهلية و الدينية منها بالخصوص ، فإذا تجاوزت المساعدة الحكومية السنوية مبلغ 100 ألف كرون نرويجي ، فيجب على الجمعية أن تقدم سنويا تقريرا أدبيا و ماليا مصدّقا من طرف محاسب مالي معتمد لدى الدوائر الرسمية . إضافة إلى تقديم قائمة سنوية بأسماء الأعضاء و يمنع القانون ازدواجية الانتماء إلى الجمعيات الدينية . و للنرويج نظام محكم ندعو إلى الأخذ به في هذا المجال . و هو ما أضاف على المؤسسات الدينية مسحة بارزة من الشفافية ، و فوّت على أعداء الحرية القدح أو الهمز في الجمعيات الدينية . فقوى اليمين و العنصرية تصور هذا النمط على أنه تهديد للهوية الوطنية ، و لم تلو و لن تلو جهدا إلا و تبذله من أجل إعادة النظر فيه . و للأسف الشديد تتناغم بعض ردات الأفعال مع هذا التوجه ، و تسقط في حبال المكر اليميني . 3. تحرير النظر في العلاقة بين الحرية و المقدس : مشكل نظري ، يتجسد في ردات فعل ، مآلاتها غير مأمونة . فالحرية في التصورات الغربية مفتوحة و ليس لها حدود و هي على نقيض كلي مع المقدس . بل تأسست على هدمه من خلال صراع مرير مع الكنيسة التي تمثل المقدس في الغرب . فالمولود في الغرب يولد في أفق حر ليس له حدود . و العقل و الجسد يسبحان في حرية مفتوحة في الغرب ، تبلغ حد الاشمئزاز الفردي و الجمعي دون أن تكون فرصة للمجتمع للحد منها . و هنا يبدأ التصادم النظري و العملي في العلاقة مع المقدس . و لم تفلح المقاربات الاسلامية إلى اليوم إلى تحرير المقدس من التشوهات الكنسية التي يسقطها الغرب على جميع الأديان بما فيها الاسلام و إن كانت أسسه وتجربته التاريخية تختلف عن التجربة الكنسية . و المواجهات العملية التي برزت من الجالية المسلمة في الغرب ، كان بعضها على صور كنسية ممعنة في تشويه المقدس ، مما أفقد المدافعين عن المقدس فرص تعديل الصورة . و أمعن الفريق الآخر في التشويه و الاستفزاز . فأين هي حدود الحرية ؟ و أين هي الصورة الحقيقية للمقدس ؟ و أين مساحة الحرية في المقدس ؟ و ما هو المقدس في الحرية ؟ هذه مجموعة من الأسئلة الفلسفية ذات الطابع الوجودي ، لا زال الفكر الاسلامي لم يقدم فيها مقاربات ناجحة ، تشبع حاجة الغرب للحرية ! ربما يقول قائل : نحن لسنا معنيون بتقديم إجابة نقنع بها الآخرون . و لكن ما هي الدعوة إن لم تكن اقناعا للآخرين ؟ و ما هي العالمية غير القدرة على اقناع الآخرين في كل زمان و مكان ؟ و ما هي صلوحية المقدس غير صلوحية حججه و مقارباته ؟ . 4. امتحان المواطنة : لا تزال قوى اليمين السياسي في أغلب الدول الاوروبية مشككة في قدرة "المسلمين" على الايفاء بمتطلبات المواطنة . و ترى فيهم خطرا على الحرية و النظام الديمقراطي . و إثر كل حدث و ردات الفعل تجاهه ، تشرع قوى اليمين السياسي في توظيفها بالدفع نحو اصدار قوانين جديدة تحد من سلاسة القوانين و الاتجاه بها نحو التشدد . فمن اشتراط ساعات محددة في تعلم اللغة و الاطلاع على النطام المدني ، إلى اختبار في منظومة القيم و عدم ارتداء النقاب و منع الحجاب في المدارس .. الخ . و سلسلة التشدد تسير بسرعة ، و تزيل أمامها ردات الفعل غير الراشدة من المسلمين ، جميع الحواجز لتنخرط جميع الأطراف السياسية في هذا التوجه . فالمواطنة التي هي مكسب و ثراء و فرص متاحة للتفاعل و التأثير ، لم تحظ بالوعي الكافي من الجالية المسلمة في الغرب . و للأسف الشديد لم تقابل بالوفاء و الالتزام بمتطلباتها في حالات عديدة . فأبرز أهداف الصور الكاريكاتوية هو تعميق الريبة و الشك في وعي المؤسسات المدنية بأن المسلمين ليسوا أوفياء لمتطلبات المواطنة . 5. مأزق الأجيال : تعيش الأجيال الجديدة من المسلمين في الغرب وضعية أقل ما يقال فيها بأنها صعبة . و للأسف الشديد تشير العديد من الاحصائيات إلى أن عدد الشبان المهاجرين و شبان الجالية المسلمة بالخصوص ، هم الأكثر ممارسة لأوجه عديدة من الجرائم و الممنوعات القانونية ، إضافة إلى قلة منهم فقط تواصل دراستها الجامعية . و هناك معاناة حقيقية بين متطلبات الهوية غير المعاشة في البيوت و بين أفراد الجالية و بين الانتماء الوطني و التزاماته. ربما نتفهم الحالة في النرويج باعتبار أن الجيل الأول المؤسس ، لم يكن له الوعي الكافي و المعرفة التي تمكنه من التنبه مبكرا إلى التحديات التي تواجه الأجيال الجديدة . و لكنها نجحت في توريث الهوية بأقدار محددة ، و المأمول أن تلتقطها الأجيال الجديدة و تهذبها وفق التزامات الهوية و متطلبات الانتماء الوطني ، في معادلة تزيل الالتباسات و الاشتباكات بين الحدين . و نحسب أن الجميع بحاجة إلى مزيد من الوقت . و لكن أحداث صور السخرية و الاستهزاء تسعى إلى تعميق الفصل بدل الوصل بين حدي الهوية و الانتماء الوطني . و المطلوب من المؤسسات الاسلامية التي لها بعد النظر ، تعميق الوعي بقيمة الوصل ، و كبح نزوات الفصل التي تديم الصراع ، و في ذلك تكمن مصلحة الأجيال الجديدة من المسلمين في أوطانهم الاوروبية . 6. اشباع الحاجات المرضية : تؤكد المدارس النفسية أن للانسان مجموعة من الحاجات ، تطلب الاشباع . و الهوية تنظم شكل الاشباع و طرقه المشروعة . و لكن في المقابل هناك ما يطلق عليه حاجات مرضية ، نتيجة لاضطرابات نفسية و اضطرابات في الشخصية . و إذا نمعن النظر في أنماط الشخصيات التي كانت وراء رسم أو نشر الصور ، نجدها تعاني من اضطرابات واضحة ، فهي مسكونة بحب مرضي للذات ، و قلقة اجتماعيا ، رافضة للتعارف و تستمتع بالإستهزاء و السخرية و إذاء الآخر . وهي مهوسة بالشك و الخوف من المغاير لها . و عندما ننظر في المقابل لأمثلة عديدة من ردات الفعل و التي تم صيد أخطائها ، نرى أن أفرادها تعيش حالة من الاضطرابات النفسية المشابهة . و بينهما تضيع مكاسب الهويات و ينال من أمن و استقرار المجتمعات . 7. التوظيف الاقتصادي : نحسب أن هذا البعد أصبح جليا في العديد من الحالات السابقة و اللاحقة . فالصحيفة النرويجية التي هي من أبرز صحف الحوادث اليومية و التي نشرت صور السخرية من المعلوم أنها تعيش حالة مالية صعبة ، و إن نفوا بأن العامل المالي ليس هو الذي دفعهم إلى هذا الفعل . و لكنها في خطتها المالية لعام 2010 حددت الاستغناء عن ما يقارب 50 موظفا فيها ! . فالإعلام في كل العالم يتأسس على الإثارة . و الإثارة تدر على وسائل الاعلام أموالا كثيرة ، خاصة لدى الوسائل التي لا تعتمد على نظام الاشتراكات ، بل على البيع اليومي المباشر فقط . و في هذا الإطار يجب أن ننبه إلى أن سياسة اليمين في الغرب هي حشر القوى المدنية و الأهلية في العالم الاسلامي في زاوية خيار المقاطعة . فاليمين السياسي هو المستفيد الأول من انخفاظ التبادل الاقتصادي بين الدول الاوروبية و العالم الاسلامي . فالاقتصاد هو عصب العلاقات الدولية ، هو الذي يمكن لهذا الطرف أن يؤثر في مواقف الطرف الآخر . و الأحداث المتتالية من بداية الأزمة الاقتصادية إلى اليوم تشير إلى أن العديد من الدول الاوروبية ساعية في جذب مزيد من الاستثمار الاسلامي إلى و في أراضيها . و هذا يتطلب مناخا من التسامح و ازدياد مساحات الاحترام المتبادل . و هو نقيض الفكر اليميني الذي يسعى إلى تذكية مناخ التشكيك و الدس و الاستفزاز ، لتقليص فرص التعاون الاقتصادي و استثماره سياسيا و ثقافيا . و نتائج هذه السياسة اليمينية في دول العالم الاسلامي هو مزيد من دعم للاستبداد السياسي و تقليص لمناخ الحريات و استدامة سياسة التخويف التي تتلون في كل مرحلة بلون . 8. التوظيف السياسي : لا شك أن الإثارة في الإعلام ، هو المركب السهل الذي تمتطيه الأحزاب السياسية اليمينية , فعند قرب محطة سياسية ما ، و خاصة الانتخابات البرلمانية أو البلدية ، تجد اليمين السياسي يدفع ب"مدافع الإثارة" للإنطلاق ، لتُدوي في سماء السياسة بأحداث ترفع رصيده في الاستبيانات على أمل أن تكون واقعا في نتائج الانتخابات . فقبيل الانتخابات البرلمانية التي عُقدت في السنة الماضية في النرويج و بعد أن فضحتهم حرب الإبادة التي تعرض لها قطاع غزة بوقوفهم خلف الاعتداء الاسرائيلي ، حاولت قوى اليمين السياسي استثارة بعض المواضيع الاسلامية مثل : الزي الرسمي للشرطة و امكانية دخول المسلمات المحجبات إلى هذا السلك ، إضافة إلى موضوع النقاب و غيرها .. و ها هي و بعد الهزيمة في الانتخابات البرلمانية و في خضم الاستعدادات للإنتخابات البلدية ، تدفع قوى اليمين السياسي بآلية الإثارة الممجوجة من جديد لتستهدف نمط التعايش الديني و العرقي الذي يتبناه الإئتلاف الحاكم اليوم في النرويج لمرحلتين متتاليتين . و أبعد من البعد القطري ، فالكل يتذكر أحداث الصور المسيئة للنبئ محمد صلى الله عليه و سلم في الدانمارك ، و الذي تلته اعتداءات غاشمة من الكيان الغاصب على لبنان ثم غزة . فما الذي يُخطط له بعد هذه الموجة الجديدة من الصور ؟ على العالم أن ينتبه إلى ما أبعد من نشر صور في الصحف . بل هو إشارة إلى قرب إعتداء جديد ، بعد أن تُربك الساحة الاوروبية و تُشحن ضد القضايا الاسلامية . فالصور ما هي إلا قرع لطبول حرب تدفع لتوسيع و إدامة الشرخ بين الغرب و العالم الاسلامي . فهل نعي الدروس ! 9. التوظيف الأمني : من حق كل بلد أن يحافظ على أمنه و استقراره . و من حق أجهزته الأمنية أن تتخذ كل الاجراءات وفق القانون و التزاما بالمواثيق الدولية لحقوق الانسان ما يمكّنها من الحفاظ على أمنه و مستقبل أجياله . فالأجهزة الأمنية معنية بقبول أو حتى صُنع قدر محدد من استفزاز خلايا العنف النائمة و اكتشافها قبل أن تستقيم على عودها . و نحسب أن قبول الأجهزة الأمنية بهذا القدر من الاستفزاز ، ربما يُتفهم دواعيه . و لكن ما الضامن بأن لا تكون هذه الأجهزة تحت تأثير الإثارة و يُظلم أفراد لا يحملون العنف كمنهج في التغيير ، و لكن درجة حساسيتهم الدينية قوية ؟ . و على الأجهزة الأمنية الاوروبية أن تتحرر من عقدة الخوف من صور الالتزام الديني ، و يتم ذلك بتعميق الثقة بين الأجهزة الأمنية في الغرب و المؤسسات الاسلامية و أفرادها ، و على الجالية المسلمة أن تتحرر في المقابل من عقدة " صورة الأجهزة الأمنية المتضخمة " في العالم الاسلامي ، و أن لا تسقط في حبال كيد اليمين السياسي . و للمسألة وجوه عديدة نتمنى أن تعالج دوما بالهدوء . و لا شك أن تراكم التجارب تساعد الجاليات المسلمة على التعامل مع كل المستجدات مهما كانت صعوباتها . و تعميق القيم المشتركة للمجتمعات متعددة الثقاقات ، الذي هو مسار مازال بحاجة إلى جهود كبيرة من جميع المكونات .