بقلم :أ.د. أحمد بوعزّي شهدت البلاد في الأيام الأخيرة وبالتحديد منذ ثلاث سنوات تفاقما لدوس القوانين التي تنظم الحياة الاجتماعية والعمرانية والتجارية والمالية، فلا يمرّ أسبوع دون أن نسمع أو نرى تجاوزا للقانون يسمّم حياة المواطنين ويُشعرهم بعجزهم أمام الظّلم والثراء غير الشرعي على حساب المواطنين وعلى حساب المصلحة العامة. وعادة ما تقع هذه التجاوزات بمساعدة الإدارة التي يقع تسخيرها لإسكات المتضررين من هذه التجاوزات بالتهديد والوعيد وأحيانا بالسجن واستعمال العنف. فقد وقع الانقلاب على جمعية القضاة التي كانت تنادي باستقلال القضاء وبأن لا يقع توظيفه وتسخيره لتلجيم المظلومين من هذه التجاوزات أو المدافعين عنهم، ووقع الانقلاب على نقابة الصحافيين حتى لا يقع الإعلام عن هذه التجاوزات وإسماع صوت ضحاياها، وحوصرت الأحزاب المستقلة حتى لا تدافع عن المظلومين وتؤلّب الرأي العام ضد التجاوزات، وحوصرت جرائدهم بحرمانها من التمويل العمومي الذي تنعم به الجرائد التي تغطّي على التجاوزات والظلم، ومُنع توزيعها على مشتركيها وذلك بتوظيف ديوان البريد الذي يقبض ثمن التوزيع ولا يوزّع الجرائد، وقد تُؤلب مصالح الضرائب ضد الخواص الذين تسوّل لهم أنفسهم نشر الإشهار على صفحات جرائد المعارضة. المؤلم أننا نشاهد الدولة تضعُف أمام هذه التجاوزات وتحاول في بعض الأحيان إصلاح تداعياتها ولكنها لا تمنعها أو تردعها، بل تزداد ضعفا يوما بعد يوم. وهناك أمثلة كثيرة على هذه التجاوزات نسوق قليلا منها. المثال الأول: بعد صدور الأمر عدد 261-2010 بتاريخ 15 فيفري 2010 الذي قنّن الإشهار بالطريق العام والذي منع في فصله الخامس "إقامة اللافتات والركائز الإشهارية على الرصيف" نرى العمّال يواصلون تبديل المعلقات الإشهارية على لوحات تسد الرصيف أمام المارة في العاصمة وضواحيها، وتمنعهم من السير بأمان وكأن شيئا لم يكن، وكأن الأمر الذي أمضاه رئيس الجمهورية يخص نيجريا أو مصر لأن السّلط المكلّفة بتطبيق القانون في بلادنا أضعف من أن تتصدّى لأصحاب شركات الإشهار، هؤلاء الأثرياء الجدد الذين يخالفون القانون ويتعدّون على حقوق المواطنين ويزدادون ثراء بصورة غير شرعية دون حرج. غير أن السّلط نفسها تتصرّف بصورة مخالفة تماما عندما يتعلّق الأمر بمواطن عادي يسدّ الرصيف. المثال الثاني: اتخذت بلدية حلق الوادي قرارا يقضي بانتزاع عقارات حي "البراطل" التي تقطنها 18 عائلة، وقبل أن تحصل على قرار بالانتزاع للمصلحة العامة أو الحصول على قرار بالإخلاء، بل قبل أن تبتّ محكمة الأصل في قرار الهدم الذي لا يزال موضوع نزاع، سخّرت القوة العامة لإخلاء المساكن، فحاصرت قوات الشرطة مصحوبة بالكلاب الشرسة الحي يوم 12 جانفي الماضي على الساعة السادسة صباحا ووقع كسر الأقفال والدخول عنوة إلى مساكن آهلة وإخراج المواطنين منها بالقوة بلباس النوم والاعتداء عليهم بالعنف لمنعهم من المقاومة وحبسهم لمدة ست ساعات في حافلات تمّ جلبها للغرض لتمكين الجرّافات من هدم منازلهم وتسويتها بالأرض. ويظهر أنه سيقام مشروع خاص بالمكان يدرّ أموالا طائلة على باعثيه. الدولة ضعفت أمام المتنفّذين ولم تستطع حماية المواطنين بل وقع استغلال أدواتها من شرطة ومعتمدية لافتكاك عقاراتهم دون رضاهم بالقوة الغاشمة. والغريب في الأمر أنه وقع استدعاء العائلات المتضرّرة بعد أكثر من شهر إلى لجنة في وزارة الشؤون الاجتماعية لبسط مشاكلهم لديها ولمّا جاء محاموهم للدفاع عنهم مصحوبين بالوثائق القانونية أنكرت الوزارة وجود اللجنة أصلا ورفضت قبول تقاريرهم وتسجيلها في مكتب الضبط. لقد أصبحنا وكأن هناك إدارة موازية حاولت الحصول على إمضاءات من أصحاب العقارات ثم اختفت لمّا رأت أن الفخ الذي نصبته لم يمسك الأشخاص المناسبين وإنما جاء محاموهم عوضا عنهم. وغير ذلك من الأمثلة كثير. المثال الثالث: تم غلق معهد "لويس باستور" الذي يدرّس البرامج الفرنسية للتعليم الثانوي سنة 2007 ثمّ تمّ هذه السنة سحب الترخيص من "جامعة تونس الحرة" ومعهد "بوليتكنيك" التابع لها، وكل هذه المؤسسات التعليمية تابعة للسيد محمد بوصيري بوعبدلي. وقد وقعت كل هذه الإجراءات في ظروف غير واضحة وبسرعة لم تعوّدنا بها الإدارة التونسية ولم يتمكّن مالك المؤسسات من الدفاع عن نفسه. لقد أصبحت الدولة ضعيفة، ولولا وجود بعض الموظّفين الثقاة الذين مازالوا يقومون بوظيفتهم بإخلاص لانحدرت بلادنا إلى مستوى بعض البلدان التي نقرأ عنها أخبارا مفزعة. لكن إلى متى سيدوم صبر هؤلاء الأمناء أمام تحدّي المتنفّذين للقانون والتراتيب والذين يفوزون يوميا بامتيازات ليس لهم فيها حق ترتهن مستقبل أبنائنا وأحفادنا؟ لقد بدأت طاقة احتمالهم تبلغ حدّا يصعب معه تماديهم في القيام بعملهم بتفان، وبدأ يظهر هذا القلق حتى على أعوان الأمن المكلّفين بتنفيذ تلك الأوامر. أمّا المواطن العادي المغلوب على أمره فأصبح لا يعلم مصدر "التعليمات" المخالفة للقانون التي تستعملها الإدارة أو أعوان الأمن ذريعة للتعدّي على حقوق المواطنين وتكبيل حريتهم وتعطيل نشاطهم التجاري والسياسي، إذ أنها لا يمكن أن تصدر عن سلطة مسؤولة. لقد أصبح البعض من المتنفذين يشكلون مراكز قوى لها تأثيرها على مؤسسات الدولة توظّفها لمصلحتهم الخاصة رامية بقوانين البلاد عرض الحائط، همّهم الوحيد زيادة الثراء في الميادين الطفيلية غير المنتجة وغير الخالقة لمواطن الشغل. مراكز القوى هذه تتصرّف وكأنها تريد غنم أكثر ما يمكن وفي أسرع وقت ممكن لتثبّت سيطرتها على وسائل القوة من مال وإعلام وكأني بها تتسابق مع الزمن... بهذا المعنى يغدو الإصلاح الإداري وحماية حقوق المواطنين وممتلكاتهم وتعزيز دولة القانون وديمومتها مرتبطا بالإصلاح السياسي ... وإذ أسوق هذه الأفكار فلغيرتي على مؤسسات الدولة وعلى هيبتها التي أراها تتفتت رويدا رويدا، لكن دون هوادة.