الصحبي عتيق* الأسس والمنطلقات: إلى جانب هذه المفاهيم حول اللغة والنص والحقيقة (تعرضنا لها في الجزء الأوّل) والتي تمثل أدوات منهجية لهذه القراءات الحداثية فإنها تسعى إلى تقديم جهاز من المفاهيم يمكنها من امتلاك النتائج المعرفية والنهايات المنطقية ومن ثم إحلالها مكان المفاهيم المعتمدة لدى الأصوليين بعد تقويضها. وهذه القراءات تقدم مقولاتها بطريقة صريحة أحيانا ومقنّعة وخفية أحيانا أخرى، متجنبة الصدام مع عقائد الأمة والمؤسسات الدينية الرسمية. وتنبني على مجموعة من الأسس أهمها: - العلمانية: (علمنة المعرفة واستبعاد الغيب) وهي مسار تطوري للمجتمع الأوروبي ولها تعبيرات ثقافية واجتماعية وسياسية تصدر عن مقتضيات العقل المتحرر من كل سلطة دينية, حيث يتعالى العقل ويتحوّل إلى مرجع أعلى للمعاني والقيم (هاشم صالح، مقال في الحداثة، مجلة الوحدة). إن أصحاب هذه القراءات يعتمدون العلمانية منطلقا فكريا لهذه «الحفريات المعرفية». والعلمانية عندهم مسار لازم للقطع مع الزمن الأسطوري والمرور إلى مرحلة العقلنة (الشرفي، لبنات، سلسلة معالم الحداثة) فالعلمنة التي جاءت بها الوضعية المادية هي الخطوة الأولى لتأسيس المرحلة الحديثة للتاريخ البشري وتحريره من البعد الغيبي. والعلمانية تشمل جوانب التفكير والثقافة وإلغاء سلطة المؤسسة الدينية والحيلولة دون تدخلها في توجيه الحياة السياسية ليتحول المجتمع إلى مصدر أعلى للقيم والأخلاق. وتناسى هؤلاء أن كل فكرة إنما هي «تتخلق في رحم المجتمع بنجاحاته وإخفاقاته، وكذلك تستجيب لمطالبه وحاجاته العامة» (والتعبير للدكتور رفيق عبدالسلام). - التاريخيّة: (الربط بالبيئة الجغرافيّة والطبيعية) لقد سعى رواد الحداثة الأوائل إلى سلب المشروعية عن الكنيسة, وانتهى الأمر إلى غلبة مفهوم «تاريخية الأفكار» -كل الأفكار- وخضوعها لمنطق الزمان والمكان. وهذا المفهوم نشأ في صلب الثقافة الأوروبية ثم انتقل إلى الثقافة العربية، والتاريخية تهدف إلى ربط النصوص بالبيئة الجغرافية والطبيعية والبشرية والقبائلية لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي, فتصبح دلالات الألفاظ مرتبطة بعهد التنزيل, فينتفي مفهوم الحقيقة الثابتة والمعنى الصواب ليفتح المجال لتعدد المعاني وتجددها بحسب ما يمليه تجدد المعايير والقيم (أركون، قضايا في نقد العقل الديني). - النسبية: وتعني تجريد القرآن من صفتي الإطلاقية والتعالي ونزع البداهة والقداسة عن الوحي، يقول أبو زيد: «إن كل الخطابات تتساوى من حيث هي خطابات وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه الحقيقة» وتهدف هذه القراءات من خلال هذه المراجعة لكل المسلّمات إلى ضرب النص كمرجعية مقدّسة وعليا، مفارقة لإطار الزمان والمكان, ومن ثم ضرب الطابع الإلزامي لكل النصوص وضرب فكرة الحاكمية وفكرة الحقيقة التي يمثلها الوحي. وهذا مدخل للاجتراء على كل النصوص فلا تبقى قواطع ولا ثوابت ولا تخوم. وإذا جاز تخطى حدا من حدود الله جاز إسقاط كل الشريعة كما قال الإمام الشاطبي, وهنا يكمن الخطر المنهجي لهذا المنزع. إن هذه الأسس تمثل في الواقع أزمنة معرفية وأطوارا عرفها المجتمع الغربي باعتباره الفضاء الحضاري الذي تشكلت فيه هذه الأفكار منذ انطلاق حركة الإصلاح الديني, التي استهدفت تفكيك السلطة الدينية والزمنية للكنيسة, وحررت فهم نصوص الكتاب المقدس من وصايتها. الاستشراق والقراءات الحداثية لقد امتدت الهواجس والمخزونات الفكرية والنفسية التي خلفتها حركة الإصلاح إلى حركة الاستشراق التي كرست تفسير ظاهرة الوحي تفسيرا ماديا واعتبار حقائقه غير مطلقة ولا ثابتة, واعتبار الحضارة الغربية مركز العالم, ومصدر الحقائق, ومهد العلوم. (انظر محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث). يتحدث المفكر والكاتب إدوارد سعيد عن «رؤية الاستشراق الإمبريالية»... وكيف ينقل الاستشراق ذاته أو يعيد إنتاجها من عهد إلى عهد. و يتساءل كيف نستطيع أن نعالج ظاهرة الاستشراق الثقافية التاريخية بوصفها نمطا من العمل الإنساني دون أن نحقّق في الوقت نفسه في رؤية التحالف بين العمل الثقافي والنزعات السياسية؟ إن رواد القراءات الحداثية اجتهدوا في نقل مصطلح «القراءة» بالمفهوم الغربي إلى الثقافة الإسلامية بلوازمه, التي يرفضها فكرنا الإسلامي عموما, واستمدوا المفاهيم والأدوات المنهجية -ليس من دون وعي- من أعمال المستشرقين. وعليه فإن هذه القراءات الحداثية لا تنفصل عن أطروحات الاستشراق وتهدف إلى إعادة توجيه الحضارة الإنسانية وفق مفاهيم وأدوات العقل الوضعي وتكريس التبعية للعقل الغربي وأصحاب هذه القراءات «خلفوا المسيحيين في النقد التاريخي لمصادر الإسلام ومنشئه» كما قال الأستاذ محمد الطالبي الذي وسم هذا التيّار ب «الانسلاخسلامية» وهي تعني: «اختيار تأسيس الحداثة على أساس الانسلاخ من الإسلام» (انظر كتاب ليطمئن قلبي). وتنتهي هذه القراءات إلى: - الفوضى في التأويل بالخروج على قوانين التفسير والتأويل وفق قواعد اللغة العربيّة وأساليبها وأسرار التشريع ومقاصده بحسب ما وضعه علماء أصول الفقه من طرق الاستنباط بقواعدها اللغوية والشرعية. - التلاعب بالنصوص عبر إبطال مدلولاتها. - التحرر من كل قيد وضابط في فهم النصوص وتأويلها، ومن ثم التحرر من سلطة النص الذي تكونت في ظله ثوابت العقل الإسلامي. - إعادة توجيه الثقافة والتفكير وفق مفاهيم بوحي من العقل الوضعي ومن ثم تكريس التبعية للعقل الغربي. وفي الأخير، لئن كان العقل الإسلامي يملك مفهوما واضحا للتعامل مع النصوص (الاجتهاد) فهو ما زال يتلمّس طريقه لإعادة إنتاج المعرفة والإبداع وفق مفاهيم الوحي. *كاتب وباحث من تونس