في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات بالتمام والكمال رحل الزعيم التونسي الشهير الحبيب بورقيبة ( السادس من أبريل نيسان 2000 أبريل نيسان 2010).. بورقيبة صاحب أشهر مشروع تغريبي عربي على الإطلاق ( أو أتاتورك العرب كما يسمى بحق) مات يوم السبت السابع من نوفمبر ( تشرين الثاني ) 1987 في إثر الإنقلاب الأبيض ضده من لدن وزيره الأول بن علي .. أما بورقيبة الإنسان فإنما ظل بعد ذلك 13 عاما كاملة يعاني مرارة الإقامة الجبرية من جهة ومرارة المرض ( الذي وصل حد الخرف الذهني ) من جهة أخرى.. قبل أن يرحل عن الدنيا يوم السادس من أبريل نيسان عام 2000.. بعد عشرية من رحيل أبرز زعيم تونسي.. إن قلت أنها مناسبة لن تزال تسيل لعاب الأقلام عاما بعد عام فأنت محق بسبب المكانة الفعلية للرجل في حياته ( إذ حكم تونس منذ 1957 حتى 1987 = 30 عاما كاملة ) ثم بسبب مكانته الرمزية بعد موته : موته السياسي المباشر ( وليس الثقافي ولا الحضاري بسبب أن مشروعه التغريبي العالماني المتطرف جدا مازال يحكم البلاد ولكن ليس بالأسلوب البورقيبي القائم على الجمع بين الثقافة والعصا بل بالأسلوب الوحشي التدميري لخلفه بن علي الذي يحكم البلاد بالعصا الغليظة مجردة عن كل نفس ثقافي وفاقد الشيء لا يعطيه كما قالت العرب بحق ).. عام 1987 وموته الحقيقي عام 2000.. وإن قلت أن الرجل يحكم البلاد نسبيا حتى بعد موته السياسي وموته الحقيقي وأن الناس في حياته ومن بعد موته يختلفون فيه كثيرا ويختلفون حوله أكثر.. إن قلت ذلك فأنت كذلك محق بسبب أن الرجل ليس حاكما مثل أغلب الحكام فحسب بل هو زعيم بكل ما تحمله الكلمة من معاني الزعامة.. الرجل بكلمة واحدة : صاحب مشروع ثقافي حضاري متكامل أمه حملا وإرضاعا هي ما كان يعبر عنه في مئات من خطبه “ اللحاق بركب الأمم المتقدمة لا يتم بغير القضاء على التقاليد البالية “ وليست التقاليد هنا سوى الإسلام كما سيأتي ..
هل بورقيبة مجتهد أم كافر؟ كتب كثيرة ألفت في بورقيبة في حياته وبعد موته. كثير منها ترفعه إلى حد الإجتهاد الإسلامي من مثل كتاب ( بورقيبة والإسلام للصحفي التونسي الشهير لطفي الحجي ) فضلا عن الكتب ذات الطابع التأريخي من مثل كتاب وزير الداخلية الأسبق الطاهر بلخوجه وغيره. بينما تنحو كتب أخرى منحى مضادا بالتمام والكمال وأبرزها ( كتاب الفكرة الإسلامية للمرحوم الندوي وهو عبارة عن مؤلف ينطلق من فتوى شهيرة للإمام السعودي المعروف المرحوم إبن باز وفتاوى أخرى كثيرة مكتوبة تكفر بورقيبة وتدعوه إلى التوبة لعدد من علماء العربية السعودية في ذلك الوقت وعدد آخر من علماء الهند وغيرهم في إثر تصريحين لبورقيبة أحدهما في منتصف ستينيات القرن الميلادي المنصرم في موضوع تقديم جهاد التنمية على صوم رمضان سيما أن بورقيبة عمد إلى إحتساء كوب من الماء في نهار رمضان بمناسبة إشرافه على إجتماع لمجلس الوزراء ( كتاب الدولة ) وتم نقل المشهد على الملإ. أما التصريح الثاني فهو في منتصف سبعينيات القرن الميلادي المنصرم في موضوع القرآن الكريم الذي وصفه بأنه متناقض وفي موضوع النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي وصفه بأنه رجل بدوي يجوب الصحراء ويغوي الناس بقصص خيالية من مثل عصا موسى وغير ذلك ).. إذا عرض لك رجل في حياتك يختلف فيه الناس بين من يعتبره مجتهدا من مجتهدي الإسلام حتى وهو يسن قانون التبني ( قانون تنفرد به تونس منذ أزيد من نصف قرن كامل على أساس أن التبني يتعدى كفالة اليتيم إلى حد نسبة المتبنى إلى صلب المتبني مدنيا ليرث منه بمثل ما يرث منه فروعه وتكون ذريته محارم للمتبنى وهو أمر معلوم من الدين بالضرورة من حيث كونه محرما بمطلق لغة سورة الأحزاب وليس هو محل إختلاف أبدا بين كل مذاهب الأمة ومدارسها).. وبين من يعتبره كافرا خرج من ربقة الإسلام أي مرتدا بالكامل.. إذا عرض لك في حياتك رجل من هذا القبيل فإن الأمر يتطلب علاجا دون ريب..
ميزان بورقيبة في نظري. لا بد من سوق ملاحظات أولية قبل ذلك. أولها أن كل من أفضى إلى ربه سبحانه لا يليق به غير ذكر حسناته أو سيئاته بأدب جم وتواضع بسبب أن الفحولة ليست في معارضة رجل قضى إلى ربه وهو بين يديه يفعل به ما يشاء ولا يتناقض ذلك أبدا مع ما تعلمنا من القرآن الكريم الذي علمنا مما علمنا قوله سبحانه في سورة الأحزاب ذاتها ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ) .. إنما أراد سبحانه هنا أن يثبت المشيئة الإلهية الماضية لئلا يظن العابد المزيف أنه بمكان من القرب يتألى به عن ربه سبحانه أو يحبس نفسه في نسق سببي سنني صارم حتى ليظن أن ذلك النسق يحكم على أفعال ربه كذلك بمثل ما يحكم على أفعاله هو.. ذلك هو المعنى الأولي الذي تبنى عليه عقيدة الإسلام لئلا يتوهم من يظن في نفسه القرب من ربه أنه قريب بعمله عقلا أو عملا أو أن الكافر إنما خلقه ربه إبتداء لجهنم حطبا.. ولعل أنفس ما قيل في ذلك : المشيئة والحكمة صنوان يتلازمان أبدا.. من ألجم فاه بلجام من صمت في حياة بورقيبة فليس له اليوم أن يعارضه شهامة وكرامة ومن فاتته معارضة بورقيبة فالطغاة من بعده يندون عن العد .. أما ثاني الملاحظات فهو أن ما يسوقه الكتاب اليوم في بورقيبة من قريظ مدح أو كالة سوء في القدح فلا يعدو أن تكون قراءات يغلب على أكثرها التحيز العفو من آلة يؤول إليها بل إن كثيرا منها يتستر خلف بورقيبة لنقض غزل خصيمه الثقافي أو السياسي والميزان القسط أنأى عن ذلك أيما نأي..
منهج الميزان مزدوج أو لا يكون. بورقيبة زعيم جامع أو يكاد يكون جامعا بسبب تكوينه المعاصر من جهة وبسبب شخصيته القيادية من جهة ثانية وبسبب ما تسنى له من مساحة فعل طويلة من باب القوة والنفوذ من جهة ثالثة وبسبب أنه باشر الدين والدنيا معا من جهة رابعة.. لذلك فإن منهج الميزان لا بد أن يكون مزدوجا متعدد الأبعاد فلا يقصر على فتوى دينية بمثل أنه لا يقصر على تقويم سياسي محلي أو قومي أو دولي.. فإذا صدر بعض من ذلك من بعض الناس فإن المتلقي لا مناص له من جمع كل خصم الإرث البورقيبي لعله يفيئ إلى ميزان قسط شهادة في الدنيا أما أمر الآخرة فهو موكول لله وحده سبحانه تحريرا لمشيئته بالكلية ولكن ليس على قاعدة الإرجاء المعروفة ( لا تنفع مع الكفر طاعة ولا تضر مع الإيمان معصية ) ولا على قاعدة العبثية الباطنية المتفصية من التبعات القدرية والشرعية والعملية بزعمها.
لبورقيبة حسنات كثيرة وكبيرة. 1 من أكبر حسنات بورقيبة بناؤه للدولة التونسية على أسس معاصرة حديثة من حيث الشكل على الأقل من مثل السلطات الثلاث ( الأربع إن شئت قلت بإعتبار سلطة الإعلام) وإستقلالها بعضها عن بعض. بورقيبة لم يؤسس دولة أسرية أو عائلية أو عشائرية رغم أنه تورط نسبيا في محاباة جهات على أخرى في تونس من حيث فرص تحمل المسؤولية وغير ذلك ومرد ذلك هو خلافه الشهير الحاد جدا مع صالح بن يوسف الذي وصل حد إغتياله بعد الإستقلال التام بسبع سنوات فحسب. حداثة الدولة التونسية التي شيدها بورقيبة تتمثل في مظاهر منها الإدراة ومنها الدستور ذاته رمزا من رموز الشرعية والمرجعية.. مما يحسب في هذا الإطار كذلك أن بورقيبة لم يؤسس دولة عسكرية ولا حتى بالمعنى العسكري المقنع أو الخفي بمثل ما ظهر في دولة بن علي سليل المخابرات العسكرية.. بل ربما يمكنك القول أن دولة بورقيبة سيما في عهودها الأولى لم يكن يصدق عليها أنها دولة بوليسية أو دولة مخابرات بمثل ما هو الحال في أكثر الأنظمة البعثية أو المسماة كذبا قومية.. دولة بورقيبة يغلب عليها الطابع المدني سيما في عهودها الأولى وإنما كانت تتوسل بسلطة البوليس بقدر ما تظهر المعارضات قوة وتأثيرا في الشارع لولا أنها مثل كل دولة عربية تقريبا لا تعرف إلى مدنية التداول على السلطة سبيلا..
2 من أكبر حسناته كذلك تقديمه لوظائف التعليم والصحة في الدولة والبلاد ميزانية وتخطيطا ومزاولة. من مفاخر بورقيبة ربما في العالم العربي كله أو الإسلامي أن ميزانية وزارة التربية هي أكبر ميزانية مطلقا على إمتداد ثلاثة عقود كاملة وهي المدة التي حكم فيها البلاد. كل من عايش تلك الفترة يدرك مدى إنتشار المدارس الإبتدائية ( الأساسية) في القرى والأرياف وبدرجة أقل من ذلك قطاع الصحة العمومية. مراهنة بورقيبة على قضايا الثقافة والتفكير والتعليم والتربية أمر لا يحتاج لأدلة أبدا.
3 من حسنات بورقيبة كذلك : حسنة تحمل وجهي الخير والشر معا بسبب أن قانون النسبية في مثل هذه القضايا قانون محكم لا ينفع معه وصل دون فصل ولا فصل دون وصل. هي حسنة سماها بورقيبة (الأمة التونسية). إذا تجاوزنا الإسم الخاطئ بالمقياس القومي العربي والمقياس الإسلامي فضلا عن المقياس الإنساني الأعم .. إذا تجاوزنا ذلك فإن بورقيبة خط سياسة ثقافية وعملية تقوم على ضرب من ضروب توحيد المجتمع التونسي ضمن حركة تعبئة جديدة قوامها التمحض لخوص رهانات التنمية والتقدم والإزدهار وما كان يسميه فرحة الحياة وهو مسلك في الجملة والعموم محمود بل هو مسلك الأبطال القوميين من مثل هتلر الذي راهن على علوية وفوقية الجنس الجرماني عامة والألماني خاصة.. غير أن مشروع بورقيبة بأسره وحدة متكاملة كلما فصلت مسلكا من مسالكه عن جلده الثقافي وبطنه الفلسفي غدا في العادة مسلكا محمودا أو مقبولا ( خذ قضية التعليم مثلا ) ولكن كلما وصلت ذاك بذلك ظهرت لك عورات المنهج والأداء سواء بسواء.. ومن هنا هناك لغزان في المشروع البورقيبي :
أ لغز الوحدة الإجتماعية التونسية. طرق بورقيبة في مشروعه على هذا المسلك التوحيدي القومي طرقا شديدا قولا وعملا وتعليما وتربية وتأسيسا فأصاب هنا وأخطأ هناك. أصاب حيث أنه ساهم مساهمات معتبرة جدا في توحيد التونسيين أو أغلبهم حول مشروع وطني معاصر أو جديد هو مشروع بناء الدولة الحديثة بعدما كانت الولاءات يغلب عليها الطابع القبلي نسبيا في تونس إذ أن الولاء القبلي في تونس لأسباب جغرافية وتاريخية وغير ذلك هو ولاء هش أو قابل للهشاشة. ولكن بورقيبة أخطأ عندما أصاب قيمة التكافل الإجتماعي في مقتل من مقاتله العظمى وذلك عندما عمل على ما يسميه علماء الإجتماع تذرير المجتمع التونسي بكل ولاءاته القديمة وعصبياته التقليدية رغم نسبيتها الشديدة وإحلال الولاء للدولة محل ذلك. بكلمة : ألغى بورقيبة القبيلة ونصب نفسه رئيسا لقبيلة كبيرة إسمها الشعب التونسي. طبعا نجح في ذلك بسرعة قياسية تبعا للقابلية الذاتية للتذرر.
بورقيبة وأد المجتمع التونسي وأدا خفيا. تلك حقيقة إجتماعية لا وجود لها بصورة مأساوية إلا في تونس. بورقيبة صاحب عقيدة غربية رأسمالية ليبرالية عالمانية مادية باهرة المعالم واضحة المنهاج بينة الشرعة. عقيدته حيال الإنسان هي أن الإنسان فاه يأكل بأكثر منه يدين تنتجان وإذا عجزت يدان على إطعام فاه واحد فإن المشكل يكون وجوديا عقديا بحق ولكن العقيدة المقابلة تقول ( وقدر فيها أي في الأرض أقواتها ). ظن بورقيبة أن قوة الكيف راجحة على قوة الكم فراهن عليها وظل يسعى لتقليص عدد الولادات سعيا حثيثا ويحصد في رأس كل عام الجائزة الدولية الأولى ونجح نجاحا كبيرا جدا في جعل ذلك ثقافة راسخة عند كثير من التونسيين وراهن في هذا الأمر وأمور أخرى كثيرة على عصا الثقافة وبذلك باءت تونس بأول مقعد من مقاعد وأد الولادات وتقليص الإنجاب ليس عربيا فحسب ولا إسلاميا فحسب ولكن باءت بالمقاعد الأولى في الترتيب العالمي وباء بورقيبة بإثم وأد التونسيين وأدا خفيا.. وأدا يقبل عليه التونسي في العادة من تلقاء نفسه ظنا أن يدين عاملتين تعجزان عن إطعام فاه واحد فاغر .. هنا في الحقيقة مكمن غرابة إذ كيف تنطلي على بورقيبة حيلة خبيثة مثل هذه وهو من هو في الذكاء والفطنة بل هو من هو في حساب المناورات السياسية المعقدة جدا .. كيف يظن أن العامل الديمغرافي عبء ثقيل أو هو لا شيء في حساب معايير النهضة والتقدم والإزدهار وهو ينظر بأم عينيه إلى الصين والهند..
ب لغز المرأة. لبورقيبة حسنات كثيرة وكبيرة قصر فيها الحديث على مسألتي الدولة بإدارتها الدستورية والقانونية وسلطاتها ونمطها الحديث بصفة عامة من جهة وممارسة الدولة من حيث تقديمها للتعليم والتربية وبناؤهما على أسس عصرية وكفاءات تنافسية على مستوى دولي من جهة أخرى.. ولبورقيبة سيئات أخرى كثيرة وكبيرة كذلك .. يأتي الحديث عنها .. ولكن هناك منزلة في الميزان البورقيبي هي منزلة بين المنزلتين .. ليست خيرا كلها ولا هي شر كلها.. هي قضية المرأة التي ترجمت أو إختزلت في مجلة الأحوال الشخصية والحقيقة أن البورقيبية قائمة على ضلع كبير إسمه : المرأة.. ضمن مشروعه الثقافي المتكامل.. قضية المرأة في المشروع البورقيبي متلبسة بجانبين إن توخيت معهما منهج الوصل أعياك البحث وإن عملت بمنهج الفصل جاءت النتيجة متذررة مبعثرة لا تكاد تعثر لها على خيط ناظم. قضية المرأة متلبسة بجانب ثقافي فكري ( بمعناه الفلسفي المنهجي) بسبب أن أم المشروع البورقيبي كله هو صنع تونس صناعة جديدة تكون بها دولة أروبية ( فرنسية بالأساس) من حيث منهاجها الثقافي ولكنها تقع في المحيط العربي والإسلامي والإفريقي من حيث التاريخ. وهي في الآن ذاته متلبسة بجانب عصري مدني يقوم على مساهمة المرأة في التنمية وقبل ذلك على حقها في التعليم والمشاركة دون قيد ولا شرط بما فيها القيود الإجتماعية الموروثة أو الشروط العرفية التي تواضع عليها المجتمع منها الغث ومنها السمين..
المرأة في المشروع البورقيبي حرة وعبد ( أمة ) في الآن ذاته. قام المشروع البورقيبي في هذا الصدد على تحرير المرأة من كثير من التقاليد البالية والأعراف العقيمة التي لبست لبوس الإسلام والإسلام منها براء ( من مثل حق التعليم الذي هو واجب دستوري في دولة بورقيبة لا يتخلف عنه ذكر ولا أنثى منذ السنوات الأولى وحق تولي الوظائف في كل الحقول العامة بندية مع الرجل مما أفضى إلى مساهمة المرأة منذ السنوات الأولى في الخدمات العامة إجتماعيا وثقافيا وسياسيا وعلميا وغير ذلك والأهم من كل ذلك أنه أنشأ مناخا جديدا في البلاد عنوانه : للمرأة ما للرجل من الحقوق وعليها ما عليه من الواجبات). من هذا الجانب فإن المشروع البورقيبي قام على تحرير المرأة دون أدنى مواربة ولكن المرأة ذاتها التي حررها المشروع البورقيبي ألفت نفسها عبدا ( أمة ) بسبب أن صاحب المشروع ألغى الإعتبارات الدينية الإسلامية بالكامل تقريبا فكان مشروعه ثورة ساحقة ضد كثير من السنن والأسباب والفطرة البشرية وإختلاف الذكر عن الأنثى إختلاف تكامل وليس إختلاف تضاد مما أفضى بالضرورة إلى ثورة ضد الإسلام ذاته ولم يقتصر الأمر على الثورة ضد التقاليد البالية والأعراف الظالمة.. لك أن تقول بإطمئنان كبير في نهاية الميزان البورقيبي في قضية المرأة أن المرأة كسبت كثيرا ولكنها خسرت أكثر.. كسبت حريات كثيرة وكبيرة ولكنها خسرت حريتها العظمى أي : حرية أنوثتها أو حرية شقاقتها للرجل أي مساواتها إليه مساواة عدل وقسط ضمن الأداء الإجتماعي العام وليس مساواة ظلم وغبن يفقد بها كلاهما جزءا كبيرا من وظيفته الأصلية جورا على وظيفة صاحبه في الحياة أسرة ومجتمعا..
لبورقيبة سيئات كثيرة وكبيرة كذلك. 1 سيئة بورقيبة العظمى التي قد تطيح بالميزان كله على ما فيه من حسنات كبيرة وكثيرة هي سيئة تحيزه الأعمى للمشروع الغربي في وجهه المادي العالماني المتطرف جدا وبخاصة في نسخته الفرنسية التي لا يتردد في مدحها بمناسبة وبغير مناسبة ولعل كل تونسي عايش تلك المرحلة البورقيبية يحفظ كلمته المشهورة التي شنفت بها آذاننا طويلا ( فرنسا هي أمنا الحنون). بورقيبة هو بإختصار شديد رجل تلقى علومه الجامعية العليا في التخصص القانوني في باريس ( أم الأنوار الأوروبية وعاصمة عصر النهضة الغربية بالتعبير العالماني). هو رجل تشرب الثقافة الفرنسية كمن يتشرب نسمات فجر عليلة بعد ضناء ليل طويل بهيم. نشأ بورقيبة في بيئة تونسية تعيش أبهى عهود الإنحطاط الإسلامي حيث تصبح أكثر العادات دون أدنى مبالغة بتقاليدها وأعرافها دينا مدينا وحيث يكون طلب العلم من لدن المرأة هرطقة بمثل ما يكون طلب علوم الدنيا ( علوم الإجتماع والإنسان و علوم المادة بالتعبير المعاصر ) من لدن الذكر زندقة وشيئا لا يتبعد كثيرا عن الخروج عن ملة الإسلام.. ذلك هو الداء الوبيل الذي كاد أن يقع فيه رجل من أعظم رجالات النهضة الإسلامية المعاصرة أي الشيخ محمد عبده الذي إضطر إلى تأويل طير الأبابيل في سورة الفيل بضرب من الجراثيم وغيره من رجالات عصره ممن نأى عن ذلك أو إقترب منه من مثل الشيخ الطهطاوي وبالجملة عدد كبير ممن وصل شرقه الإسلامي لونا المنحط قيمة بغربه المادي لونا وقيمة.. ذلك هو المناخ الذي نشأ فيه بورقيبة وذلك هو إطار العلاقة الثقافية بين الشرق والغرب في تلك الأيام أو ما تسمى عن الباحثين اليوم : مرحلة الدفاع التي لا تخلو من محطات إنبهار .. 2 سيئة بورقيبة أنه لم يتح لنفسه الفصل بين غربه الفرنسي الذي تشرب منه الثقافة التي تصنع عقله وخلقه وبين شرقه ( تونس ) العربي الإسلامي الذي ينتمي لحضارة أخرى وثقافة أخرى ودين آخر. سيئة بورقيبة أنه قصر عن التمييز بين ما هو أعراف وتقاليد وعادات بالية تلبس لبوس الدين وبين ما هو دين فعلا وحقا. سيئة بورقيبة أنه حكم على الإسلام بالجملة وليس بالتفصيل أو قل : حكم على الإسلام بمثل ما حكمت فرنسا التي عب من ثقافتها بأكثر وأغزر وأعمق مما عب الفرنسي ذاته .. بمثل ما حكمت فرنسا على الكنيسة رمز المسيحية. 3 سيئة بورقيبة أنه حاول إستصحاب النموذج الأوربي ( أو الفرنسي) سياسيا من حيث الحريات السياسية والإعلامية والديمقراطية وأضلاعها المعروفة من مثل الفصل بين السلطات وإستقلال القضاء وحرية الإعلام والتداول على السلطة بطريق الإنتخابات الحرة إلخ .. ولكنه فشل في تجربته فشلا ذريعا إذ إعتبر أن المجتمع التونسي عجينة طيعة لينة بين يديه يصنع منها ما يشاء رغم أن أقدارا من ذلك كبيرة تسنت له فشل بورقيبة في إدارة المعركة السياسية مع اليوسفية التي إغتال رأسها بسرعة كبيرة ودم بارد ثم فشل في إدارة المعركة ذاتها مع الزيتونيين وكان يمكنه بناء مشروعه التحديثي الإداري الدستوري العظيم معزرا بأول معلم إسلامي جامع في الأرض ( الزيتونة بعد القيروان ) فتكون له حسنة الدنيا وحسنة الدين معا ثم فشل في إدارة المعركة ذاتها مع الشيوعيين الذين عالجهم بمنطق معالجة فرنسا الرأسمالية اللبرالية للكتلة الشيوعية أيام الحرب الباردة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى سقوط الشيوعية في مهدها الشرقي ثم فشل في إدارة المعركة ذاتها مع اللبراليين الذين خرجوا عليه في مؤتمر صفاقس 1975 بمناسبة إنتخابه رئيسا مدى الحياة ثم فشل في إدارة المعركة ذاتها مع النقابيين ثم مع الإسلاميين ثم مع نفسه أصلا حيث تسللت إلى قصره الثعالب الماكرة من عائلته وإرتخت قبضته وداخله الوهن ومهد بنفسه طريق الإنقلاب عليه.. 4 سيئة بورقيبة بكلمة واحدة : حاول عبثا إسقاط النسق الثقافي الفرنسي سليل الحضارة اليونانية ( التي تصدى لها الإسلام في الخلافة العباسية بقوة منقطعة النظير من خلال علم الكلام ودار الحكمة والعلوم إلخ ..) والصليبية والغربية والأروبية على أرض عربية إسلامية قحة ( فتحا مبكرا جدا وقلعات علمية دعوية تشد لها الرحال : القيروان والزيتونة ).. حاول بورقيبة ذلك بعصا الثقافة من جهة وعصا البوليس من جهة أخرى فإصطدم بمعارضة شعبية صامتة في الأغلب فأفضى به ذلك إلى الزهو والخيلاء والكبر حتى حل ربقة الإسلام من مشروعه حلا شنيعا فلم يبق أمامه من خيار غير خيار تأخير الإسلام وتقديم مشروعه وغره في ذلك ما لقيه من نجاحات كبيرة معتبرة في الحقيقة إذ أن أجزاء كبيرة واسعة من النخبة في البلاد قبل ظهور الحركة الإسلامية المعاصرة ( أواخر ستينيات القرن المنصرم) لا ترى أي وصل بين الإسلام وبين الحداثة أو بين الدين وبين الدولة أو بين التقوى وبين الشأن العام والسياسي منه خاصة.. هي علاقة فصل شنيعة .. بل هي علاقة تناف وتضاد وتقابل بحسبان الإسلام من مخلفات الماضي وهو عثرة في طريق التقدم والنهضة والحرية والرخاء.. والحقيقة أن المشروع البورقيبي قام في أغلبه كما وكيفا على عصا الثقافة وليس على عصا البوليس وإنما جاءت عصا البوليس إما ضد جماعات معارضة محددة وليس ضد تيارات بأسرها كما يفعل بن علي أو كانت عصا البوليس في أواخر حياة الرجل بعدما إحتل قصره أو قل إحتل عقله الذي كان يفكر به على إمتداد ثلاثة عقود متتاليات.. 5 من أكبر سيئات بورقيبة وهي سيئة تابعة لا متبوعة إزدراؤه للغة العربية بحسبانها لغة التخلف والإنحطاط مثلها مثل قومها في نظره. كاتب هذه السطور مثلا لم يدرس مادة واحدة مما يزيد عن عدد أصابع اليدين من مقررات المناهج الدراسية بغير اللغة الفرنسية عدا مادتي العربية والإنجليزية.. يمكن لك أن تعد جانبا من ذلك إيجابيا وهو فعلا كذلك من حيث بناء تعليم عصري مدني يتوافر على قدرة تنافسية عظيمة شهدت بها محافل العلم في العالم أجمع.. ولكن الجانب الآخر يرجح الكفة دون شك بسبب أن الخيار هو خيار ثقافي فكري فلسفي بالأساس وليس خيارا إجرائيا على حد تعبير رجال البيداغوجيا التعليمية. بورقيبة خارج الصراعات العربية والقومية. مما يميز بورقيبة عن كل الحكام تقريبا في دنيا العروبة والإسلام أنه لا يولي إهتماما كبيرا لقضايا الوحدة العربية أو قضية فلسطين. ينطلق من مشروعه التغريبي المتكامل بحسبان العروبة والإسلام أمرين إما أن يندمجا في الثقافة الأوربية ( الفرنسية ) إندماج ذلة وهوان وإما أن يستخدما قنطرة للعبور خدمة لرسالة المشروع البورقيبي أو هالة من هالات النفاق التي تصيب الزعماء في إخفاقاتهم.. لذلك لم تعرف لبورقيبة أعمال في القضية الفلسطينية التي سخر إعلامه لوصفها قضية الشرق الأوسط بما تلقيه الكلمة من ظلال غريبة بعيدة بعد تونس عن فلسطين.. سوى تصريحه الشهير في حيفا عام 1965 القائم على التقسيم على أساس حدود 1948 أي سياسة إزالة أثار العدوان بالتعبير الإعلامي المعاصر.. هو موقف في زمانه لم يكن سيئا لذلك يجني منه أنصار الرجل ومشروعه اليوم الذي يجنون ولكن يكفيه سوء أنه يعترف بالإحتلال ويرهن جزء من فلسطين خارج أداء الأجيال المتعاقبة ومقاومتها يوم تحين ساعة المقاومة وطرد المحتل.. بمثل ذلك كان موقفه مما سمي آنئذ وحدة جربة أي مع ليبيا وخطابه المشهور في البالماريوم مما أثمر هجوم القذافي بعد ذلك ( 1980) بعصابة قتل ضد قفصة.. مازال الرجل ومشروعه يجني كذلك من ذلك الموقف اللاوحدوي الذي يجني بسبب النظرة الجزئية الآنية للقضية.. ولكن بورقيبة بالمحصلة عينه على اللحاق بركب الأمم المتقدمة أي فرنسا ومن في حكمها ثقافة ومنهاجا.. وإنما تعرض له مثل تلك الحالات فينطلق من موقفه العقدي العام ليؤجلها بدبلوماسية عجيبة أو يسخر منها بلباقة أو عنف ولكنه كافر بكل مظهر من مظاهر الوحدة العربية فضلا عن الإسلامية ولا يستبدل قبلته الفرنسية بأي قبلة أخرى إذ لك أن تقول كذلك بإطمئنان كبير إلى أن الرجل يتمتع بوفاء عجيب لعقيدته الغربية.. وفاء قد لا تجده أحيانا في بعض خصومه من الإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم.. تحت ذلك السقف كله جاء خلافه التاريخي الشهير مع عبد الناصر وليس على أساس التنافس الزعاماتي فحسب كما يحلو لبعضهم تأكيد ذلك.. المشروعان الناصري والبورقيبي على طرفي نقيض..
هل أن بورقيبة وطني؟ ما هي الوطنية؟ إذا كانت الوطنية في بعض معانيها التي نحن بصددها رغم هلامية مثل هذه المصطلحات التي تشبه الجبة التي يتقصمها كل من هب ودب هي حب تونس والوفاء لها وخدمتها بالنسبة للتونسي طبعا فإن بورقيبة وطني صميم دون ريب أبدا. بورقيبة يحب تونس ولكنه يحبها تونس فرنسية الهوى. يحب تونس ولكن يحب إقتلاعها من جذورها العربية والإسلامية وإعادة زرعها في الرحم الفرنسي. بورقيبة بذلك المعنى وطني قح ويكفيه فخرا أنه لم يستغل نفوذه بما يصنع أغلب الحكام اليوم ليملأ خزائن المصارف الأوربية لحسابه وحساب عائلته وأقربائه. بعضهم يريد التهوين من ذلك بقوله أنه يعتبر أن تونس مزرعته الخاصة فلا يفكر في فقدها يوما حتى يختلس الأموال ويحصنها في مصارف سويسرا.. ولكن ما هي أملاك بورقيبة داخل البلاد؟ لا شيء تقريبا.. وطنية بورقيبة بكلمة واحدة وطنية مزدوجة متلبسة بالخير والشر. هو وطني مخلص لبلاده دون ريب ولكنه غير مخلص لهوية بلاده. مما يزيد من وطنية بورقيبة أن عقد الإستكبار والتأله عنده عالية جدا إلى درجة أنه لا يطيق وجود حاكم إلى جانبه أو منافس شره فوق مائدته. بورقيبة من الذين لا يرضون إلا بالوحدانية التي لا يشاركه فيها أحد ولذلك تجده يجمع في نفسه بين أمرين ظاهرهما التناقض وباطنهما غير معلوم على وجه الدقة : أحدهما أنه لا يرضى بأن يشاركه في حكم تونس أحد ولو كانت فرنسا نفسها أي أمه الحنون وثانيهما أنه وفي لفرنسا ثقافة ومنهاج حياة بصورة عجيبة كأنما هو مؤسس الجمهورية الفرنسية وحامل جرثومتها في رحمه.. من حسنات بورقيبة التي لا يقدرها غير المهاجرين أو المهجرين أنه سن قانونا ينقل بموجبه التونسي إذا مات خارج بلاده دون تعقيدات إدارية ليدفن في أرض الخضراء.. حسنة تعكس الحس القومي الوطني الصارخ عند بورقيبة .. لحسنات بورقيبة الكبيرة والكثيرة نار لا تبقي لا تذر. أفضى الرجل إلى ربه سبحانه وهو بين يديه إن شاء غفر وإن شاء عذب وسبحان من لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ومن أفضى إلى ربه فلا فحولة في سبه أو شتمه إلا رأيا مخالفا يعبر عنه بالأدب الجم والتواضع .. تواضعا للموت الذي يرده كل مخلوق وتواضعا لخالق الموت الذي قضى أن كل من عليها فان.. ولكني أخشى أن تلتهم نار الثقافة الغربية التي أحرق بها بورقيبة البلاد حسناته الكبيرة والكثيرة . أخشى ذلك ولا أرجو عذاب الآخرة لبشر والله سيما ممن أفضى إلى ربه سبحانه أو من تلبست حسناته بسيئاته.. إلا موقفا واحدا لبورقيبة لا ينطلق به لساني رغم تقديري الكبير لحسنات بورقيبة الكبيرة والكثيرة .. موقف يزجرني عن الإقتراب من الحمى خشية أن يكون الحمى نارا لاظية.. هو موقف السخرية من نبي الإسلام ورسول الرحمة محمد عليه الصلاة والسلام من لدن رجل عربي مسلم في الأصل حاكم لشعب عربي مسلم يستوي على عرشه بمثل ما يستوي الملك المظفر المفدى الذي دانت له الرقاب رغبا ورهبا .. يصفح صدري عن جبال من السيئات ولكنه يضيق ضيقا شديدا يجعله كمن يصعد في السماء كلما تسلل إليه همس ساخر ممن جعلته لحياتي سراجها المنير.. إلا محمدا .. إلا محمدا .. إلا محمدا .. فداك أبي وأمي يا محمد .. وصلى الله عليك وسلم..
اللهم إغفر لأموات المسلمين أجمعين. الهادي بريك ألمانيا