قد يحتاج المرء في حياته إلى محطات دفع قوية تجمع بين القوة والرحمة وهو الفن الذي لا يجيده غير الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام.. قد يحتاج المرء في حياته إلى مثل تلك المحطات الموجعة في جانب منها ولكنه الوجع الذي يجده المريض وهو يحتسي الدواء المر ثم سرعان ما يستحيل عافية وأمنا .. من تلك المحطات التي قد تكون حزمت حقائب عمر من التهوك إلى القوة في الإسلام ما يلي : أورد أهل السير والمغازي أن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام لقي عمر في بداية الإسلام في ظل الكعبة ذات يوم وبين يديه ورقات من التوراة فغضب لما رأى وأخد الورقات من يد الفاروق وقال له : أمتهوكون فيها يا إبن الخطاب .. والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه غير إتباعي .. التهوك هو : الترهل والتسيب. يرشدك إلى ذلك قبل الرجوع إلى قواميس اللغة العربية حرف العلة الذي يتوسط كلمة ( هوك) ليجعل من فعلها أجوف كما تعرف أي معلول العين وعين الفعل هي قلبه النابض.. فضلا عن ذلك يرشدك إلى ذلك حرف التاء الخفيف المرقق دوما.. أمتهوكون فيها يا إبن الخطاب. أي أنى لك أن تقرأ كتابا زيفه أهله وحرفوه إذ لم يصنه الله سبحانه لكونه لم ينزل ليكون كتابا جامعا للدين والدنيا معا ولا ليكون هاديا للبشرية جمعاء في كل زمان وكل مكان وكل عرف وحال.. أنى لك أن تجمع بين المزيف المحرف وبين الحق المبين الذي هيمن على الكتاب من قبله ونسخه حتى وهو مصدق لما بين يديه ولكن قبل التحريف والتزييف .. التهوك هو أن يظل المرء مذبذبا بين الأديان ( رغم أن الدين في الكتاب الخالد لم يرد بصيغة غير صيغة الإفراد مطلقا موحيا بأن الدين واحد أي في أسسه العقدية وحتى لا يدعي صاحب دين غير دين الإسلام أنه صاحب دين فيسبغ على نفسه شرعية الدين السماوي أو تسبغ عليه ولكن ذلك لا يمنع من إسباغ شرعية الوجود عليه والحياة بدينه المزيف حتى وهو ذو أصل سماي ما دام لا يعرض للناس بالبغي والظلم ).. لم كان ذلك كذلك من نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.
أولا لأن المؤدب هنا وهو الفاروق في موضع من القوة النفسية تؤهله لأن يؤدب بذلك الشكل.ومن فنون التربية الإسلامية ألا تعامل المربى الضعيف بمثل ما تعامل به المربى القوي لأن التربية هي بمثابة محلول سائل لا بد من مناسبة وعائه الذي فيه يستودع وإلا حصل الإنفجار ثم الهلاك. ثانيا لأن المؤدب هنا يعد لمكانة مرموقة في الإسلام صحابيا ووزيرا لخاتم الأنبياء ثم ثاني خليفة راشد علم البشرية ما لم تتعلمه من كل زعمائها وقوادها وأبطالها القوميين .. ثالثا لأن القضية عقدية بإمتياز والراسخون في العلم قرروا أن التشدد في الثوابت سيما العقدية منها مطلوب.. تشدد معناه لا مساومة فيها قبل الحوار وفي أثناء الحوار وبعد الحوار.. وذلك هو سبب نزول سورة الكافرون .. رابعا لأننا في أوائل المرحلة المكية التي يتنزل فيها القرآن بعقائده وتصوراته وثوابته القطعية عن الألوهية والنبوة والبعث والإنسان والحياة والدنيا بدأب دائب .. هي مرحلة التأهيل الأولى التي تستقبل إعداد القاعدة الصلبة على حد تعبير الشهيد سيد قطب لتكون قاعدة صلبة للدعوة الإسلامية.. خامسا لأن التحدي القادم أي بعد الهجرة خاصة هو التحدي الإسرائيلي الذي تمحض له القرآن المدني أيما تمحض ولذلك لا بد من تربية القاعدة الصلبة للدعوة الإسلامية الأولى أو للجيل القرآني الفريد الأول والعبارة كذلك للشهيد قطب على أسس عقدية ثابتة مؤهلة للصمود والثبات أمام زلازل تهد الجبال يسلطها الإعلام الإسرائيلي ضد القرآن الكريم ونبيه ودينه وأهله من مثل قضية تبديل القبلة وبشرية محمد عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما يخرج عن دائرة هذه الحلقة .. ذلك درس بليغ جمع بين القوة والرحمة في فن التربية المحمدية الكريمة .. درس تلقاه الفاروق فكان بمثابة المصل التلقيحي الذي أودع رحم الفاروق وهو في بداية طريقه الإسلامي الطويل. درس في البداية جعل الفاروق سيدا لا مسودا في كل مراحل حياته.. درس جعل الفاروق راحلة من رواحل الإسلام الكبرى والأولى .. وكم هي الدروس التي نتلقاها في البدايات فنهمل الإستفادة منها أو نلفظ جرعات القوة التي صاحبتها.. بينما نقبل على تجرع الأدوية المرة جدا أملا في شفاء أبداننا.. ونفوسنا أولى بالشفاء لو كنا نعلم .. إنما الإسلام قوة ترهب بها أعداءه وتحرر بها المستضعفين. ورد في السير والمغازي أن الصحابة كلهم هاجروا خفية عن أعين قريش إلا الفاروق عمر الذي إستأذن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام في أمره فأذن له. وما هو أمره؟ ذهب يتحدى طغاة قريش وصناديدهم وهم يقضون ضحاهم كالعادة في ظل الكعبة. ظهر عليهم وقال لهم بلهجة العزيز الذي تخشاه الأسود في عرائنها : إني مهاجر غدا إلى المدينة وسالك فج كذا وفج كذا فمن أراد منكم أن تثكله أمه فليعترض سبيلي. لاذت ثعالب قريش بالصمت ونام الضحى عنهم بمثل ما نامت نواطير مصر عن ثعالبها ولم يكونوا يملكون غير ذلك في وجه رجل كانوا يهابونه في الجاهلية فإذا به يعتز بالإسلام الذي زاده هيبة على هيبة.. أمهلهم يوما كاملا لعلهم يدبرون حيلة لثنيه عن تحديه.. أمهلهم يوما كاملا ليفكروا ويدبروا ويتشاوروا ولكن فحولتهم التي سلطوها على بلال وسمية والمستضعفين من المسلمين في مكة.. فحولتهم تلك لم تسعفهم وأنى لها أن تسعفهم في وجه رجل زاده الإسلام عزا على عز.. أليس هو صنيعة قوله عليه الصلاة والسلام ( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ).. بلى ورب الكعبة..
أم أن صناديد قريش تنفسوا الصعداء لهجرة الفاروق. ذلك أمر تابع بالضرورة. تخلص صناديد قريش من رجل في وزن عمر يجعل النفوس المريضة بغرورها تتنفس الصعداء. ولكن لا تنس أن صناديد قريش طعنوا من قبل التحدي الفاروقي أيما طعن.. لم يتحداهم واحدا واحدا ولكنه تحداهم مجتمعين وهو كبير عليهم .. ولم يتحداهم في أي مكان ولكنه تحداهم في ناديهم الضحوي اليومي بمكة وهو كبير عليهم كذلك. ولم يتحداهم وهو كافر مثلهم ولكنه تحداهم وهو يتعزر بالله سبحانه ويتقوى بالإسلام ويسند محمدا عليه الصلاة والسلام جهارا بهارا وهو كبير عليهم كذلك.. لذلك يكون صناديد قريش قد تنفسوا الصعداء لغياب الرجل الذي يهابونه في الجاهلية وفي الإسلام سواء بسواء ولكنه في مقابل ذلك أصاب كبرياءهم في مقاتله كلها.. إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. حقيقة من أغلى حقائق الحياة : السؤدد = حق + قوة + خير. تلك هي الحقيقة التي أكدها الكتاب العزيز في مواضع كثيرة منه بل قام عليها بمثل قيامه على حقيقة أخرى صنو هي : المجتمع الإسلامي = توحيد الرحمان سبحانه بالعلم ( سورة الرحمان) + قيامه على الشورى التي تعني الوحدة والتنوع معا ( سورة الشورى ) + إعداده للقوة لرغد العيش وتحرير المستضعفين وحماية حقهم في العبادة ( سورة الحديد ).. هي حقيقة أكدتها التجربة البشرية من لدن آدم عليه السلام حتى يومنا هذا. الحق الأعزل من القوة صاحبه مستضعف لا بواكي له بل هو معرض للفتنة التي هي أشد من القتل وأكبر. القوة العزلاء عن الحق صاحبها مستكبر عربيد يأكل من حوله ثم يأكل نفسه. الحق الأعزل عن الخير أي عن فعل الخير رحمة بالناس هو حق تقمصه العقل ولكن القلب بقي بمثل صفوان عليه تراب وهل ينبت صفوان عليه تراب عشبا وكلأ أو هو بمثل خشب مسندة. أما القوة العزلاء عن الحق فلا تعرف الخير ولا تجتمع به حتى يلج الجمل في سم الخياط.. الفاروق = حق وقوة وخير .. لذلك أعز الله به الإسلام. من يتتبع آي الذكر الحكيم والسنة العطرة يلفى مواضع طلب القوة تكاد لا تحصى ناهيك أنه عليه الصلاة والسلام يتعوذ من “ الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وقهر الدين وغلبة الرجال “ بمثل ما يتعوذ من “ الكفر والفقر وعذاب القبر “. ولذلك فسر العلماء قوله سبحانه : „ ولا تجعلنا فتنة للذين كفروا “ أي : لا تجعل منا مستضعفين عجزة حتى نكون في مرمى عيون الكافرين ( سيما الظالمين منهم ) الذين يتربصون بنا ليفتنوننا عن ديننا ويحولوننا عنه بفتنة المال والقوة والغلبة وسحر الحضارة أي رغبا ورهبا.. كأن الفتنة هنا هي ذلك الطعم الذي يعلقه كل مستضعف فقير مخذول من المسلمين فوق عنقه يأوي إليه كل مستكبر بمثل ما يأوي القط إلى فريسة فأره.. كما فسرها غيرهم برأي آخر قريب من ذاك بل يشتركان في النتيجة وهي الفتنة.. فسروها بألا تجعلنا متفرقين متناحرين على نحو يطمع فينا الكافرون والظالمون منهم بصفة خاصة بسبب أن أغلب تعبيرات الكفر في القرآن الكريم يقصد بها الظالمون منهم ولكن عبر بالكفر لغلبة الكافرين يومئذ على طائفة الظالمين بمثل ما حقق ذلك الإمام إبن تيمية عليه رحمة الله سبحانه .. الإسلام دين القوة المحصنة بالحق والخير. غير أن بعض الدعاة إليه اليوم سيما من مشايخ الفضائيات يقدمونه إلى الناس بما يقترب من المخدر الذي يصرفهم عن الدنيا التي جعلها سبحانه مادة الإمتحان وقنطرة عبور إلى الجنة أو إلى النار. بعضهم يوجه رسالة إلى المستمعين والمشاهدين مفادها أن ظلم الحكام قدر إلهي لا يقارع ومثله الأمراض والتفرق. ليت شعري أين هؤلاء من فقه الفاروق الذي كان من سادة الرهبان بالليل الفرسان بالنهار.. ناهيك أنه سبحانه يحب “ المؤمن القوي “ بأكثر ما يحب المؤمن الضعيف حتى لو كان في كل خير رحمة منه سبحانه.. يحبه سبحانه لأنه ينصر الإسلام ويستأمن عليه ويؤدي خلافة ربه.. وشتان بين من يتخذ الإسلام سلما يحصد منه نياشين العظمة والأبهة في الدنيا وبين من يتخذه الإسلام سلما يرقى عليه.. شتان بين من يأكل بالإسلام وبين من يحمي قيم الإسلام وينتصر للمنكوبين ويستعيد صرخة ربعي إبن عامر .. تلك الصرخة التي مازلت ولن أزال أسمع رنينها في جنبات الكون يردد صداها : „ جئنا لنخرج العباد من عباد العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ..“... وحتى لقاء تال.. الهادي بريك ألماني