كرشيد يكشف: أواجه 10 قضايا من بينها محاولة القتل    المهدية: محامو الجهة ينفّذون وقفة احتجاجيّة وإضرابا حضوريا بيومين للمطالبة بإحداث محكمة استئناف بالجهة    يهم الترجي الرياضي: صحيفة إنقليزية تكشف عن قيمة منح الفيفا للفرق المشاركة في كأس العالم للأندية 2025    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    السجن مدى الحياة لشخصين..فصلا رأس زميلهما عن جسده..    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب    هذه الشركة العالمية للأغذية مُتّهمة بتدمير صحة الأطفال في افريقيا وآسيا.. احذروا!    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    إخماد حريق بشاحنة ثقيلة محملة ب7،6 طن من مواد التنظيف..    فرنسا: غرق 5 مهاجرين...التفاصيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    صور : وزير الدفاع الايطالي يصل إلى تونس    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ما القصة؟    يهم التونسيين : غدًا طقس شتوي 100% و هذه التفاصيل    تفكيك وفاق إجرامي من أجل ترويج المخدرات وحجز 08 صفائح و05 قطع من مخدر القنب الهندي..    جندوبة: الإحتفاظ بمروج مخدرات بمحيط إحدى المؤسسات التربوية    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بنزرت: تنفيذ 3 قرارات هدم وإزالة واسترجاع لاملاك عامة بمعتمدية جرزونة    ر م ع الشركة الحديدية السريعة يكشف موعد إنطلاق استغلال الخطّ برشلونة-القبّاعة    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    وزير الدفاع الايطالي في تونس    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 23 أفريل 2024    بطولة إفريقيا للأندية للكرة الطائرة: مولودية بوسالم يواجه الأهلي المصري من الحفاظ أجل اللقب    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 بالمائة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    صادم: كلغ لحم "العلوش" يصل الى 58 دينارا..!!    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهجرة مهر الحرية والحرية مناط التكليف
نشر في الحوار نت يوم 03 - 12 - 2010


موعظة الحوار.

مشاهد من خلق الصادق الأمين.

الهجرة مهر الحرية والحرية مناط التكليف.

((( 33 ))).

قال تعالى : „ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين. ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم”.( الحج 58 و 59).

وقال النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام : „ لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا إستنفرتم فانفروا”.

اللهم إجعل عامنا القابل خيرا من عامنا الراحل.

يطيب لي بداية بمناسبة العام الهجري الجديد ( 1432 ) أن أزف إلى الأمة الإسلامية قاطبة أطيب الكلام وأحر السلام سائلا ولي النعمة الأكبر سبحانه أن يجعل عامنا القابل خيرا من عامنا الراحل وأن يقيض للأرض المحتلة من الرجال من يحررها ولبلادنا العربية المنكوبة في كرامتها من يضع عنها أوزار الإستبداد وأوضار الإستعباد. إنه سميع قريب مجيب.

لا ينقضي عجبي من تفريطنا في الإحتفال بأكبر عيد إسلامي.

ذكرى الهجرة النبوية الكريمة بحسب فهمي المتواضع هي أكبر عيد إسلامي طرا مطلقا. لا بل هي أم الأعياد كلها. دليلي على ذلك أن الصحابة الذين فقهوا معناها ودلالتها أجمعوا في عهد أمير المؤمنين عمر عليه الرضوان على جعلها بداية التأريخ الإسلامي وظل ذلك حتى يومنا هذا وسيظل بإذنه سبحانه حتى يرث الله الأرض ومن عليها. دليلي على ذلك أنه لولا الهجرة لما كان عيد فطر ولا عيد إضحى ولا كانت بدر ولا أحد ولا الخندق ولا مواقع تأديب اليهود الخائنين لعهودهم من بني قينقاع وبني المصطلق حتى بني النضير وبني قريظة بل حتى خيبر. بل لولا الهجرة لما كان الفتح المبين بالحديبية ولما كان فتح مكة ولما كان تأديب الروم الطامعين في إستئصال الإسلام في مؤتة وتبوك. أليست الهجرة هي أم كل الإنتصارات والأعياد؟ عجبي لا ينقضي من نفسي ومن إخواني : أنى لنا أن نهب هاشين في وجه كل عيد وذكرى ثم نظل في غفلة عن أم الأعياد والذكريات والإنتصارات! نحن من أمتنا في أنفسنا معنى الهجرة وقتلنا في أبنائنا وبناتنا دلالاتها ثم يرتفع عويلنا عاليا عندما نستيقظ وكثير من أولئك سيما ممن يعيش في أوربا يبش في وجوه أعياد المسيحيين. كل ما لدينا لهم كلمات باردة ميتة هامدة لا تسمن ولا تغني من جوع. غفلنا عن حقيقة إجتماعية مفادها أن الطبيعة تأبى الفراغ ومن لم يشغل نفسه ويشغل معه أهله وولده بالحق شغلته نفسه بالباطل. غفلنا عن حاجة الولد إلى الفرح واللعب واللهو وإثبات الذات في مناسبات معينة مع أقرانه وأترابه. غفلنا عن ذلك والماء فوق ظهورنا محمول. أعياد الإسلام لا تحصى : الهجرة أم الأعياد وبناتها كثر من مثل عيدي الفطر والإضحى وذكريات أخرى كثيرة لو فحصنا التاريخ. لا يعضلنا عن ذاك سوى جرثومة واحدة ستظل تنخرنا حتى نقضي بها. هي جرثومة التفرق والتمزق. كل واحد منا لا يفكر إلا لنفسه ولا يعيش إلا لنفسه ويحلم بمضادة سنن الإجتماع ليظن أنه بإمكانه أن يكون مسلما مؤمنا بنفسه في مجتمع يمور من حوله بما يمور. مجتمع حولته ثورات الإتصال إلى بيت صغير من زجاج. يداهمه فيه كل من هب ودب دون إستئذان. ناكية النواكي هي أن أكثر المساجد ولن تجانب صوابا لو قلت كلها لا تعير ذكرى الهجرة سوى خطبة عصماء في يوم جمعة. لم لا تجتمع المساجد على تنظيم حفلات بمناسبة الهجرة. حفلات يحتاجها الناس للتشبع من معاني الهجرة بمثل ما يحتاجها الأروبي لمعرفة شيء عن رسول الإسلام؟ لا أزيد على كلمة واحدة : عجبي من هذا التفريط لا ينقضي ورب الكعبة!

مبتورو الذيل من حولنا يصطنعون الأعياد ونحن نئد أعيادنا.

ألم يخبرنا القرآن الكريم عن هرع كل من المشركين واليهود والنصارى إلى إبراهيم عليه السلام بحثا عن مشروعية دينية؟ ما معنى ذلك؟ معناه أن كل صاحب دين وملة ومذهب يبحث أول ما يبحث عن مشروعية تاريخية يستمد منها وجوده. كم من شعوب فوق ظهر الأرض اليوم ليس لهم من التاريخ إسما ولا رسما. خذ الشعب الأمريكي ذاته. بعض المرضى من العرب أنفق أموالا طائلة لتدليس نسبة إلى بيت العترة النبوية. ليس هناك من معنى لذلك سوى أن الحاضر وكذا المستقبل لا يبنى إلا بماض تليد عريق. لم تخلد الأمم والشعوب من حولنا من تخلد من رموزها؟ أما نحن أصحاب أعرق الذكريات فإن تفريطنا في تاريخنا زهيد يسير بمثل ما بيع الكريم إبن الكريم إبن الكريم إبن الكريم عليه السلام عبدا في سيارة :“ دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين”. لا أزيد على كلمة واحدة : عجبي لا ينقضي من زهدنا في أعيادنا ورب الكعبة .

الهجرة عندهم فعل إيجابي أما عندنا فهي مقدحة ومنقصة.

من لم يطرح على نفسه هذا السؤال لن يظفر بشيء ذي بال. لماذا تعددت محاولات الهجرة منه عليه الصلاة والسلام. في غضون عشر سنوات فحسب : هاجر أزيد من سبعين من أصحابه بأمر منه مرتين إلى الحبشة التي يفصلهم عنها البحر وليس للعرب يومها معرفة بشؤون البحر. كما هاجر هو بنفسه مرة إلى الطائف ثم كانت الهجرة الأخيرة الموفقة إلى المدينة. أي أربع هجرات في غضون عشر سنوات فحسب. أي محاولة هجرة بمعدل مرة كل عامين ونيف. نشاط حثيث إذن سيما أن الهجرة تتطلب تفكيرا وتخطيطا وإعدادا. ما هي دلالة ذاك؟ هي دلالة واحدة لا ثاني لها : الإسلام الذي كلف بإبلاغه العالمين لا تنبت له نابتة إلا في مناخ هادئ من الحرية ولذلك جاءت التعليمات والتوجيهات تترى من أول يوم تحرض على تحرير العبيد بل تجعل لذلك أسبابا طبيعية حتى يظل مشروع التحرير حيا نابضا إذ لا يكلف بالإسلام سوى الحر البالغ العاقل. ومن أروع ما صنعه الفقهاء قالتهم الشهيرة : العقل مناط التكليف. ولك اليوم أن تعيد صياغتها بقولك : الحرية مناط التكليف. أجل خرجوا من مكة باكين ولكنه بكاء الفطرة وحنين الجبلة عندما تكره على ما قرن بينه وبين القتل في الكتاب العزيز :“ ولو أنا كتبنا عليهم أن أقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم”( النساء 66). ولكن هل ندم واحد منهم لأنه خرج من مكة أو أخرج؟ بل هل رجعوا إليها مستقرين من بعد فتحها؟ ألم يقض أكثر الصحابة في أرض غير أرضهم؟ قضى أكثرهم في أرض بعيدة جدا عن أرضهم. بعيدا عن مكة وبعيدا عن المدينة. الهجرة عندهم بكلمة فعل إيجابي لأنهم وجدوا الهجرة في الكتاب العزيز إحدى أضلاع المثلث الذي ظل القرآن الكريم يشيد به أيما إشادة : „ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله ..“ هذه الصياغة تكررت مرات كثيرة في القرآن الكريم حتى بنى بها بعض المفسرين مثلثا مستوي الأضلاع : ضلع للإيمان وضلع للهجرة وضلع للجهاد. الهجرة عندنا نحن اليوم أو عند كثير منا فعل لا يلقى عشر معشار ذلك. بل هو فعل يلقى الهوان والإزدراء. الهجرة عندنا اليوم عنوان الفرار من مواجهة الزحف والركون إلى عيش رغيد في أروبا وأمريكا. الهجرة عند كثير منا اليوم مقبحة ومقدحة ومنقصة.وأكرم بأعقاب أمة يعير بعضها بعضا بما كان في الجيل القرآني الفريد الأول سبقا إستحق أهله أن يكونوا في صدارة التقسيم الثلاثي للأمة في الكتاب العزيز: „ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا .. والذين تبوؤوا الدار والإيمان .. والذين جاؤوا من بعدهم ..“.( الحشر).ألم يراجع الفاروق عليه الرضوان إدارة الخليفة الراشد الأول الصديق عليه الرضوان في سياسة العطاء من بيت المال فقدم المهاجرين ثم البدريين ثم من قبل الفتح ثم من بعد الفتح ثم الطلقاء؟ أولئك فقهوا قيم السبق ومثل الهجرة فكانت عندهم نياشين ترصع الهامات بالكرامة.

السيرة النبوية تهدينا خارطة طريق إسلامية للهجرة الإيجابية.

ليس للهجرة حكم شرعي ثابت في الإسلام بسبب أنها تدور مع علتها وجودا وعدما. فهي واجبة حينا ومندوبة حينا آخر وقد تكون مكروهة في حين ثالث أو محرمة في حين رابع أو مباحة عندما تستوي الداعيات بين نشدان المصلحة ودرإ المفسدة. ولكن الثابت أن الهجرة عملية جراحية مؤلمة تدمي النفس بما ألفت من عبير الأوطان وأطلال الطفولة. الثابت أن الهجرة منوطة بحرية التدين أو بحرية الدعوة إلى الإسلام أي بحسب الموضع الذي يضع فيه المرء نفسه وإذا كانت النفوس كبارا كما قال الشاعر تعبت في مرادها الأجسام. عندما تعصف رياح الجور بالناس لا مناص لهم من الهرع إما إلى حيث فر يوسف عليه السلام أي “ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه “ أو إلى حيث فر شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام : „ وقال إني مهاجر إلى ربي”. المهرع الوحيد الممنوع على من ثارت فيهم غريزة الحرية هو مهرع الركون إلى الذين ظلموا بل إن بعضا من أولئك يقال لهم يوم القيامة : „ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”.

السيرة النبوية في هذا الموضوع غنية وثرية. إن نشدت تلك الخارطة في هجرة أصحاب شهيد مؤتة الطيار ألفيت ما يغنيك وإن نشدت ذلك في هجرته إلى الطائف كذلك وإن نشدت ذلك في الهجرة النهائية الأخيرة إلى المدينة ألفيت من ذلك فيوضا خصبة.

وهذه بعض المعالم.

1 الهجرة لنشدان الحرية لقوله عليه الصلاة و السلام معللا هجرة أصحاب الشهيد الطيار وهو يودعهم : „ إذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد”.

2 الهجرة ليست حكرا على الرجل بل هي للمرأة كذلك وليس أدل على ذلك من هجرة حوالي ثلاث نساء في هجرة أصحاب الشهيد الطيار من جهة أو إستثناء النساء من معاهدة الحديبية : „ إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ..“. و “ اللاتي هاجرن معك”.

3 الهجرة عمل منظم بدليل إصطفاء مهاجري الحبشة لجعفر عليه الرضوان ناطقا رسميا بإسمهم لدى النجاشي سواء لشرح المظلمة المسلطة عليهم من قريش أو للمرافعة في المحكمة التي إنعقدت لأجل بحث طلب قريش عن طريق الصحابي الكريم ( لم يسلم وقتها) عمرو إبن العاص بتسليم الفارين من العدالة والمارقين عن النظام الدولي.

4 الهجرة قراءة في التوازنات بدليل أن أصحاب جعفر إتخذوا موقفا إيجابيا حصيفا إبان الخلاف على العرش بين النجاشي وأخيه أو إبن أخيه أو رجل آخر. كان موقفهم أنهم يسجدون لله سبحانه يدعونه أن يظهر النجاشي على خصمه لأنه كان رجلا عادلا بمثل ما نعته عليه الصلاة والسلام. أنى لنا اليوم بفقه يدعو لكافر بالظهور على كافر! تلك مراقي بعيدة ومصاف عالية مازلنا نتدحرج دونها يوما من بعد يوم وأنى لمتدحرج القهقرى أن يظفر بفقه نظير فقه الشهيد الطيار جعفر!

5 لئن كانت الهجرة نشدانا للأمن والحرية بادئ ذي بدء فإنها تكون في الخاتمة مشروعا إستثماريا للدعوة إلى الإسلام وليس أدل على ذلك من بقاء الشهيد الطيار جعفر ست سنوات كاملات من بعد تأسس الدولة الإسلامية الأولى بالمدينة من بعد الهجرة حتى واقعة خيبر: „ بأيهما أفرح : بفتح خيبر أم بعودة جعفر”. لو كانت الإقامة في بلاد الكفر سيئة لما أقره عليه الصلاة والسلام على ذلك ست سنوات كاملات. ولكنه الفقه النبوي الذي إن شرق في مثل هذه المسائل غربنا ثم ننسب أنفسنا إليه بجرة لسان.

6 تحمل الأذى بصبر وجلد وثقة ويقين بمثل ما فعل عليه الصلاة و السلام عندما رده عتاة الطائف ردا سيئا فأغروا به صبيانهم حتى أدموا قدميه الكريمتين بالحجارة سوى أن ربه سبحانه قيض له في غمرة الحزن من يسقيه قطرات سعادة دافئة : أولها قطرة الغلام عداس الذي أخبره أنه من نينوى ( شمال العراق) فقال له : تلك بلاد أخي يونس إبن متى. وثانيها حبات عنب عذبة تنضح ماء باردا زلالا سكبت في فؤاده عليه الصلاة والسلام أملا جديدا. أما الثالثة فلم تكن على بال أبدا إذ “ صرفنا إليك نفرا من الجن يستعمون القرآن ..“. أليس هو نبي الثقلين دون سواه. كان ذلك بنخلة بالوادي. ثم تواصلت رحمات الرحلة التي ظاهرها العذاب وباطنها الأمل. أول رحمة كانت قوله لمولاه زيد : „ ليتمن الله هذا الأمر”. وثاني الرحمات كانت ضراعته التي لن تزال جنبات الكون تردد صداه. „ اللهم أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني : إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ..“ إلى آخر الدعاء الضارع يقطر عبودية وتواضعا وذلا وسكينة بين يدي مالك السماوات والأرض. دعاء جدير بالحفظ عن ظهر قلب من لدن كل مؤمن ومؤمنة. دعاء يعلم المؤمن معنى العبودية الحقة حتى عندما يبذل الداعي إلى الله سبحانه مهجته وفؤاده فداء للإسلام. فما بالك بالقاعدين مثلنا.

7 ليكن المسجد أول عمل للمهاجرين في كل زمان وفي كل مكان بمثل ما فعل محمد عليه الصلاة والسلام في المدينة. ليكن المسجد الدار الأولى والنادي الأول والملتقى الأول. ليكن المسجد جامعا يجمع المؤمنين ودار ندوة وبرلمانا وليس مثله مثل الكنيسة تنقر فيها ركيعات نقر الديكة ثم نروح. ليكن المسجد دار الأخوة ومنزل التكافل وموضع التعارف. ومن بعد التعارف في المسجد تنفتح أبواب للحياة كثيرة : هذان يتكافلان في طلب العيش الكريم وهذان يتناكحان وأولئك يرسمون خطة للدعوة في القرية أو المدينة. ليكن المسجد سيما في أروبا قبلة الحيارى والضالين وليس قبلة التائبين فحسب. لا تفرح بنفسك ولا تفرح بإخوانك حتى يكون المسجد قبلة أولئك الذين أرهقتم المخدرات وكدتهم الحياة بأنوائها وهدتهم المشاكل الأسرية بأحمالها. إذا كان المسجد قبلة أولئك حتى قبل إسلامهم فلك أن تقول : بدأ حرثي يثمر بإذنه سبحانه. أما إذا بقي المسجد سنوات من بعدها سنوات عجاف لا يؤمه غير المؤمنين فاعلم أن في الكسب من عدم التوفيق شيء كثير. ليكن المسجد أول بيئة تسكب في الولد واليافع والشاب حب الإيمان وحلاوته رصيدا يواجه به الحياة الزاخرة بعداوة الإسلام خارج المسجد مما سممت به الإسلاموفوبيا جنبات المجتمع.

8 ليكن التآخي الحقيقي العملي بمثل ما فعل عليه الصلاة والسلام في أول أيام الهجرة إلى المدينة مباشرة. لم يخصص لقيمة التآخي والتكافل خطبا عصماء كما نفعل نحن اليوم ولكنه رسم لذلك خطة عملية تآخى فيها كل مهاجر مع أنصاري ثم حدث في الدنيا ما لا تصدقه الدنيا حتى يوم الناس هذا. ما حدث من إيثار أنصاري عجيب غريب لا أظن أنه يتكرر وما ينبغي له أن يتكرر. ليس المطلوب منا ذلك لأننا دون ذلك بأحقاب بعيدة ضاربة في النفوس التي هدها البخل والشح وإفترستها الأثرة. المطلوب منا تكافلا من درجة ثانية أو ثالثة. أحيانا أقول : المطلوب منها كف الأذى عن بعضها بعضا. ذلك هو حظنا من الإيثار. أليس كف الأذى صدقة كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام؟ التآخي المطلوب ليس بينك وبين أبناء بلدك أو بينك وبين أبناء دينك ولغتك ومذهبك. التآخي المطلوب سماه النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام في حديث مع الصحابة الكرام : „ تلك رحمة العامة”. أي عندما ترحم العامة من الغرباء عنك حتى الهرة والكلب فضلا عن الكافر المسالم تكون متآخيا متكافلا متراحما.

9 وليكن منهج المهاجرين مبنيا على المشاركة الإيجابية الفعالة المسؤولة في مجتمعاتهم الجديدة. بل ليكونوا عصبة واحدة ( لها ناطقها الرسمي الأوحد بمثل ما كان للمهاجرين في الحبشة ). بل ليكونوا مواطنين أروبيين بسبب إقامتهم فيها سيما أن وجودهم لم يعد رقما عابرا بل أضحى رقما مؤثرا عددا وعدة. ذلك تفاعل إيجابي لا يقوم سوى على عدد من الشروط منها شروط ذاتية من مثل ما سبق أي : حرصهم على المساجد شراء وبناء وعمارة وحسن إدارة وإعدادا لإستقبال وإحتضان حركة إعتناق الإسلام في أروبا وهي حركة تغذ السير إلى ربها غذا جميلا. ومنها تفعيل مشاعر التآخي وحركات التكافل إلى أبعد حد ممكن عاطفة وعملا وتعاونا على الخير. ومنها إحترام المواثيق الإنسانية المبرمة وأكثرها لا يتعارض مع الإسلام بل أكثرها يحقق المقاصد العليا للإسلام من مثل التعارف والحرص على حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل والمستضعفين من الفقراء واليتامى والمحتاجين وإرتفاق الكون بالحسنى لتسخيرة لسعادة الإنسان. ومنها دون ريب إحترام العقائد والأديان والحريات الخاصة وأكبر مستفيد من ذلك هو الإسلام ذاته والمسلمون أنفسهم. ألم يكن عليه الصلاة والسلام هو أول من إعترف بحقوق الأقليات الدينية في المدينة فكانت إدارته أشبه شيء بمثل ما ورد في صحيفة المدينة بما يسمى اليوم النظام الفدرالي الذي يسمح بالتعدد والتنوع داخل الأقاليم الداخلية ولكنه يجمع الناس ويحشدهم بالقانون والثقافة على الإجتماع على الدفاع المشترك على الوطن الواحد ومصالحه العليا من أمن وسلام ورغد عيش في وجه كل غاز أو محتل؟ أليست تلك هي السيرة النبوية التي هي لنا وللناس كافة أنموذج للإتباع أو الإتساء والإقتباس؟ أم نأخذ من السيرة ما يعجبنا ويوافق هوانا وما لا يوافق هوانا نطرحه؟

تلك هي بعض ملامح المنهاج الإداري والأخلاقي الذي يمكن للمهاجرين إحتذاؤه.

والله أعلم.

الهادي بريك ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.