تلك هي شهادة الحبيب الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام وهو يخلع أوسمة الخير ونياشين الفخر على صحابته بل على قيادات الصحابة الذين هم قيادات البشرية جمعاء ورواحل قوافل البر والرحمة. قال عن الفاروق : „ أقواهم في دين الله عمر “.
القوة في الدين فسرها القرآن الكريم. 1 لم ترد القوة أمرا في القرآن الكريم إلا متعلقة ببني إسرائيل بما يوحي بأنه كان يعاب عليهم أخذهم للدين بإمعية سلوكية وتخنث عقدي وإنكسار في الإرادة إلا ما كان مأمورا به النبي يحيى إبن زكرياء عليهما السلام ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) وهو من أنبياء بني إسرائيل بما يعني أن أمره بذلك يعني فيما يعني حمل تلك الطائفة التي إمتهنت التكسر والتخنث والإمعية على القوة. 2 فيما عدا ذلك فإن معاني القوة في الكتاب العزيز تكون موزعة على ما يلي : أ الله سبحانه هو القوي العزيز وهو القوي المتين وهو ذو القوة فهو مصدر القوى كلها ونصيب الإنسان من هذا الإسم كما قال الإمام الغزالي أن يتصف المرء بالقوة ولكن إستمدادا من القوي المتين سبحانه لئلا تكون قوة فرعونية هامانية قارونية تبغي الفساد في الأرض. ب قوة عبر عنها سبحانه في قول عفريت من الجن لسليمان في شأن جلب سبأ بعرشها: „ أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين “. وهي قوة مرجوحة بقوة الذي عنده علم من الكتاب الذي أتى بها وبعرشها قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه ولذلك لم يحتج لما إحتاج إليه عفريت الجن من قول ( وإني عليه لقوي أمين) لأنه دليل حال بينما يحتاج دليل المقال إلى مثل ذلك. ج قوة الإحكام والإتقان والإحسان التي قال في شأنها سبحانه : „ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا “. بما يعني أن عقد الأيمان المغشوشة لأي سبب كان إلا ما كان باطنه الحيل المشروعة تغليبا لمصلحة ولو على أختها ينقض القوى العقدية فيحيل صاحبه كمن صعد إلى جبل شاهق بشق الأنفس فلما شارفه خر وحبط عمله. د قوة المسؤولية والأمانة بمثل ما ورد على لسان إحدى إبنتي شعيب التي تزوجها موسى عليهما السلام جميعا حتى غدا ذلك دليل الأمانة وتقلدها في الإسلام : „ إن خير من إستأجرت القوي الأمين “. ه قوة الإعداد العسكري المبني على قوى أخلاقية وعلمية وفكرية وإدارية وهو الأمر الموجه إلى أمة الإسلام في كل زمان ومكان : „ وأعدوا لهم ما إستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم “. إنما وردت كلمة قوة نكرة في البداية للدلالة على أمرين : أولهما أن القوة الأخلاقية وما في حكمها من قوى معنوية ودينية إنما تسبق القوى العسكرية والمادية وثانيهما أن القوة العسكرية والمادية إنما يجب أن تناسب الزمان والمكان ولذلك ذكر الخيل ولم يذكر وسائلنا المعاصرة.. و قوة الإعداد الهندسي والمدني والتعميري بمثل ما ورد في قصة ذي القرنين الذي إستعان بطائفة من المظلومين المستضعفين لتشييد حاجز سميك يصد المستكبرين أن ينالوا منهم بسوء وذلك في قوله : „ أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما “.. كما يشير ذلك إلى قوة التضامن الجماعي بين الناس .. ز القوة في الحياة بصفة عامة على أساس أن الإنسان مؤمنا وكافرا سواء بسواء مسافر في هذه الحياة كادحا إلى ربه كدحا فملاقيه وذلك عندما قال سبحانه ممتنا على الإنسان بالنار التي تورى متاعا للمقوين ( أي المسافرين ) : „ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين”. تذكرة للقلوب الغافلة السادرة لعلها تستيقظ من سبات العادة وسجن الإلف فتعتبر ومتاعا للمسافرين الذين يحتاجون إلى النار حاجتهم إلى عناصر الحياة المذكورة قبل ذلك في السياق ذلك أي : المني الذي يخلق الله منه البشر ( أفرأيتم ما تمنون ) والحرث الذي يطعم الله به البطون فتنشأ الأبدان وتقوى الأجسام ( أفرأيتم ما تحرثون ) والماء الذي يعيد الله به الحياة كلما داهمتها قحوط الصيف القائظ ( أفرأيتم الماء الذي تشربون ) وأخيرا : النار ( أفرأيتم النار التي تورون ).. خلاصة ذلك أن المسافر في الحياة بحاجة إلى القوة بمثل حاجة المسافر في الأرض إلى النار.. لذلك إذن وردت كلمة قوة في التوجيه الأمري إلى الأمة الوارثة الشاهدة .. بصيغة النكرة لتشمل كل أنواع القوة ولتكون القوة العسكرية ناشئة على نابتة القوة المادية والمعنوية والإدارية تعزرها بالحق والخير لئلا تكون القوة وبالا على القوي ثم وبالا على البشرية من حوله بمثل ما وقع لليابان في كارثة هيروشيما وناكازاكي ثم في محرقة غزة الأخيرة ..
دعني أضرب عنق حاطب. فضلا عن قصة حاطب إبن أبي بلتعة في القرآن الكريم ( سبب نزول سورة الممتحنة) فإن السيرة تورد لنا عشرات من قالة الفاروق : „ دعني أضرب عنقه فقد نافق يا رسول الله”. وهذا هو المعنى الأولي المباشر لوسام القوة الذي خلعه عليه الصلاة والسلام على صدر الفاروق ولكنه ليس المعنى كله ولا الأخير منه. بل هي معان كثيرة زاخرة يدرك ذلك كل من يعيش مع الفاروق في سيرته العظيمة.
قوة الفاروق في كل المواقف التي يتأخر عنها الناس. ورد مثل ذلك في الحديبية عندما جاء الشاب المكي أبو جندل يستغيث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والمسلمين يومها أن يلاحقه بطش قريش بعدما نجح في الفرار منهم وظل يكتم إسلامه في مكة ردحا من الزمن ولكن شاءت أقدار الرحمان سبحانه أن يكون ذلك المشهد فرصة لنزول أبرز وأعظم قيم هذا الدين العظيم أي قيمة الوفاء للمتعاقد كائنا ما كان دينه وكائنا ما كان ماضيه سافرا بالخصومات والظلامات. بلغ الأمر بذلك حتى نزلت سورة سماها الصحابة الكرام سورة العقود وهي سورة المائدة. ولكن أسفي على بعض أبناء المسلمين والمسلمات الذين ينسبون أصول العقود الإجتماعية التي تشيد العلاقة بين الأمة وبين خدمتها إلى جون جاك روسو وفيكتور هيغو ومنتسكيو والشاعر فولتير وبقية أعلام الثورة الفرنسية.. أسفي عليهم بما سلبت الحضارة الغربية المعاصرة ألبابهم فطووا سجل الإسلام طيا وهو أول من سن إجتماعه على أساس الوفاء بالعقود عقيدة معقودة وليس إحسانا أو تطوعا..
عمر في الحديبية. 1 شاءت أقدار الرحمان سبحانه أن يصل الشاب المفتون أبو جندل في اللحظة ذاتها التي خط فيها فدائي الإسلام علي عليه الرضوان ( كاتب صلح الحديبية ) آخر حرف فما إن رفع النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام رأسه حتى وجد الشاب المفتون يستغيث وأبوه من خلفه يلاحقه ويكاد يمسك بتلابيبه. لا أظن أن السيرة حوت موقفا أعسر من هذا على الجماعة آنذاك. لا تقل أن مشاهد الإختفاء في الغار أعسر ( غار ثور) ولا مشاهد الحصار في شعب أبي طالب ولا إحدى بيعتي العقبة التي قبض فيها على بعض الأنصار ولا عسرة أحد ولا عسرة حنين ولا نقض بني قريظة للميثاق في ساعة حرجة جدا من ساعات الخندق المحاصر من لدن قريش وغطفان ولا غير ذلك من العسرات الكثيرة .. كل تلك العسرات لها طعم وعسرة الحديبية لها طعم آخر. هو إبتلاء للنبي الأكرم عليه الصلاة والسلام ذاته فضلا عن المؤمنين معه.. إبتلاء رسالته هي : هل تكظم الجماعة غيظها وتحبس الإنتفاضة التي تعتمل في النفوس فتقوم على الوفاء بالعهد مع قريش والعهد لم يجف مداده بعد وشاب مسلم مفتون في دينه فار يستغيث.. أم تكون الأخرى وتكون التي بعدها هي حتما : هجومات إعلامية هادرة ضد الإسلام الذي يكيل بمكيالين فيقر العدل عندما يكون مواتيا له ويركله عندما لا يكون الحال كذلك.. لا بل دعني أقول بكلمة وافية : هو إبتلاء عسير جدا هل : تقوم الجماعة على العدل مع العدو في أعسر ساعات التاريخ أم تضحي بقيمة العدل مع العدو وتخسر الدنيا والآخرة معا.. نجحت الجماعة في الإمتحان وبذلك بقيت الأمة حية وذلك هو محرار الحياة دوما.. هي دروس وعسرات متتالية إنما جاء القرآن لتثبيتها ولم يأت ليقص علينا قصة من قصصها بها نتسلى أو نفتخر.. 2 كان عمر في تلك اللحظة العسيرة جدا يقف إلى جانب الشاب المفتون الفار بدينه يومئ إليه بالسيف خفية أن أضرب عنق أبيك لتتخلص منه في ساعة عسرة لم تخلصك الوثيقة المكتوبة منها.. ذلك جانب من قوة عمر التي لا تأخذها في الله لومة لائم.. 3 كانت الحديبية درسا بليغا بل قل زلزالا داخليا كاد يذهب بالجماعة بأسرها لولا أن الله سبحانه قيض لها عاملين : أولهما أم المؤمنين أم سلمة التي أشارت عليه عليه الصلاة و السلام بالمبادرة بحلق رأسه ليطيعه بقية الناس فكان ذلك ولو لم يكن ذلك لهلكت الجماعة بمثل ما أهلك الله سبحانه أقواما قص علينا أمرهم بسبب عصيانهم لأنبيائهم والقانون جاهز لا يحابي ولا يجامل ( أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ).. وثاني العاملين هو ثقتهم بنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام الذي قالوا له بصيغة غير مناسبة : أنعطى الدنية في ديننا.. ولما قفلوا راجعين نزلت سورة الفتح التي طامنت من غلوائهم وأذهبت من غيظهم بما عدته من فتح مبين وما نزعته من صدورهم من سخائم .. وشتان بين دنية في الدين وبين فتح مبين.. ثم أثبتت الأيام بعد بضعة عشر فحسب أن ما كان يعد دنية في الدين إنما هو فتح مبين.. وحتى لقاء قابل. الهادي بريك ألمانيا