كانت فرنسا تعتبر الجزائر «أرضا فرنسية» استنادا إلى قرار جويلية 1934 و«جزءا متمما لفرنسا» وفق دستور 1848 لذلك كانت الجزائر تحتل مكانة خاصة ضمن الحركات الوطنية بالمغرب العربي اعتبارا لطبيعة الاستعمارالفرنسي بها، حيث كان التراب الجزائري عبارة عن مقاطعة فرنسية. وكانت تونس والمغرب قد أحزرا استقلالهما في مارس 1956 بينما كانت الجزائر ترزح تحت الاحتلال الاستيطاني الفرنسي، ووضعت كل من تونس والمغرب مناطق كاملة تحت تصرف المقاومين الجزائريين لتجميع الأسلحة وإقامة مراكز التدريب وتكوين «جيش الحدود»في جهة الكاف. ولم تكن فرنسا تنظر بعين الارتياح لما كانت تلقاه الثورة الجزائرية من سند ودعم من قبل تونس والمغرب فعمدت الى قطع الاتصالات ووقف عمليات التنسيق بين قادة الثورة الجزائرية وحكومتي تونسوالرباط الفتيتين، فأقدمت يوم 22 أكتوبر 1956 على ارتكاب أشنع عملية قرصنة ارهابية في تاريخ الدول باختطاف الطائرة التي كانت في طريقها من الرباط الى تونس وعلى متنها أحمد بن بلاّ، آيت أحمد، محمد بوضياف، خيضر ومصطفى الأشرف. وكان الملك محمد الخامس قد حل في وقت سابق بتونس وكان في انتظارقادة الثورة الجزائرية لمواصلة المباحثات التي كانت انطلقت قبل ذلك بالرباط.
الطيارون الفرنسيون والخيانة
٭ «البوليس الفرنسي يعتقل بن بلاّ وخيضر والأشرف وبوضياف وآيت أحمد بعدما خان ا لطيارون الفرنسيون واجبهم وأنزلوا الطائرة المقلة للزعماء الجزائريين بمطار عاصمة الجزائر». بمثل هذه العناوين وهذا الاستنكار صدرت الصحف يوم 23 أكتوبر 1956 متناقلة تفاصيل عملية الاختطاف. «كان الصحفيون مجتمعين في مطعم مطار العوينة ينتظرون قدوم طائرة الوفد الجزائري، وكان قلقهم يشتد كلما مرت الساعات ولم تحلق الطائرة المنتظرة إلى أن نزل الخبر الفاجع نزول الصاعقة، فلم نصدقه أول الأمر إلى أن قدم السيد البشير بن يحمد وكيل الدولة للأخبار والإرشاد فأكده في الندوة التي عقدها بالمطار والتي أدلى فيها بالتصريح التالي: «لم نكن نتوقع في الصباح أنّ هذا الاجتماع الذي كان من المقرر أن يكون اجتماع السلم بالجزائر سيكتب له منذ اليوم الأول وبصورة فاجعة أن يؤول إلى اجتماع يُخشى منه أن يكون اجتماع حرب، إنكم تعرفون الخبر، إنّ الطائرة المقلة للوفد الجزائري والمتوجهة من الرباط إلى تونس وقع التعرض إليها أثناء التحليق واضطرت إلى النزول بجميع ركابها بمن فيهم جمع من الصحفيين، لقد بارحت الطائرة لاس بلماس» على الساعة التاسعة ونزلت بالجزائر في حدود الساعة التاسعة والنصف. لقد كان القادة الجزائريون ضيوف جلالة سلطان المغرب ومدعوين من طرف الحكومة التونسية وكان هذا الامر معروفا لدى الرأي العام الفرنسي والحكومة الفرنسية وكان من المفروض أنّ رد فعلهما سيكون مؤيدا لهذا الاجتماع وكنا واثقين من أنّ مجهوداتنا صادفت تفهما من طرف الحكومة الفرنسية والرأي العام الفرنسي. وهكذا فاننا نشاهد الآن تراجعا حقيقيا وقد استعمل في هذا الشأن عبارة مكيدة، ومهما يكن فان الحكومة التونسية تعتبر الحالة خطيرة الى أقصى حد. لقد استقدم رئيس الحكومة الحبيب بورقيبة سفير فرنسابتونس وقال له إنّ هذا الحادث يغير موقف الحكومة التونسية من فرنسا على طول الخط وأنّه من شأنه أن يدفع شمال إفريقيا بأسره إلى خوض غمار الحرب على فرنسا».
وفي اليوم الموالي 24 أكتوبر 1956، تصدرت الصفحات الأولى عناوين بارزة مثل «بورقيبة يقول إنّ عملية اعتقال القادة الجزائريين قد تدفع بتونس والمغرب إلى المساهمة في حرب الجزائر». فقد صرح بورقيبة أنّ اعتقال القادة الجزائريين امتهان لشرف الحكومتين التونسية والمغربية ولا يضيف شيئا إلى شرف فرنسا وأنّ تلك العملية قد توسع رقعة الكفاح شرقي الجزائر وغربها وقد اجتمعنا مع جلالة سلطان المغرب بمحضر إخوان جزائريين مسؤولين ورسمنا الخطة لأنّ تلك الفعلة لم تزدنا إلّا تكتلا ووحدة وشعورا بأن لا سيادة ولا استقلال حقيقي ولا حرية لتونس والمغرب ما دامت الجزائر تحت نير الاستعمار وما دامت جيوش فرنسا تحتل هذه الأقطار.
وكان الرئيس الحبيب بورقيبة استهل بيانه الصحفي قائلا: «كلكم على علم بالحادث المؤلم الذي حصل والذي كان مبعث كدر بالنسبة لكل إنسان يشعر بشيء من الشرف وكان ضحيته خمسة من المجاهدين الجزائريين تم اعتقالهم غدرا وهم في طريقهم إلى تونس قصد الوصول مع المسؤولين التونسيين والمغاربة إلى حل معقول يضمن حق الشعب الجزائري في السيادة والحرية ويفسح المجال لتعاون حقيقي مثمر بين المغرب العربي والشعوب المحبة للسلام والحرية وخاصة فرنسا فتنتهي بذلك مأساة مؤسفة مؤلمة ويرجع السلم إلى نصابه في الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط.
ولكن وقعت هذه الخدعة التي شعرنا بأنها صفعة لأننا كنا واثقين بأنّ فرنسا قبلت مبدأ التفاهم بيننا وبين المسؤولين الجزائريين لتقريب شقة الخلاف، فما راعنا إلا وهاته الآمال تهدم نتيجة لتنطّع بعض السلط الفرنسية التي اغتنمت فرصة قيادة الطائرة من قبل طيار فرنسي فترغمها على النزول وتعتقل هؤلاء القادة باعتبارهم ثوارا فكان ذلك نيلا من كرامة المضيف وامتهانا لشرف الحكومتين.
أعلمكم أنّ ردالفعل الشعبيين سيكون مظاهرات صاخبة عنيفة في كامل التراب التونسي وإضرابا عاما احتجاجا على هذه الفعلة الشنيعة.
أما من الناحية السياسية الرسمية فإنّ الندوة التي كان يظن أنها ستفشل قد تمت ومتنت تلك الفعلة الروابط بين الحكومتين التونسية والمغربية، وكان نتيجة ذلك إرسال مذكرة مشتركة لأول مرة للحكومة الفرنسية تتضمن استنكار الفعلة وتحميل فرنسا مسؤولية كل ما سينشأ عنها واعتبار الحكومة الفرنسية مسؤولة عن حياة المعتقلين».