صادق مجلس النواب التونسي في الأسبوع المنصرم على قانون جديد يقضي بتعديل المادة الواحدة والستين (61 مكرر) من المجلة الجزائية وذلك بإضافة المصالح الاقتصادية إلى المصالح الترابية والعسكرية وغيرها التي يعاقب بالسجن من يعمل على الإضرار بها. ما الحكاية؟ 1 ليس مجلس النواب في ظل النمط البوليسي الجائر الذي فرضه النظام التونسي على البلاد سيما بعد الإنقلاب ضد بورقيبة عام 1987 سوى رجع صدى للسلطة التنفيذية التي تهيمن عليها بقبضة من حديد عائلة الطرابلسي وعصابات المافيا التي تقاسمها النفوذ وتبادل المصالح. مجلس لم يكحل عينه بالتعددية السياسية يوما واحدا على امتداد عمره الذي يناهز نصف قرن.
2 أصل الحكاية أنّ تونس أخفقت في الحصول على صفة "شريك متميز" من لدن الاتحاد الأروبي في التعامل الاقتصادي بالرغم من أنها من أولى بلدان جنوب المتوسط وشرقه التي انخرطت بقوة في الاستجابة للشروط التي يفرضها ذلك الاتحاد حتى يؤهل تبادله التجاري مع تلك البلدان على أساس نهب الخيرات الباطنية والمواد الخام بأبخس الأثمان فضلا عن الإعفاءات الضريبية بما يتيح لبضاعته تفوقا ورواجا في عملية ظاهرها تنافسي وباطنها احتلالي جديد سيما بعد دخول اتفاقيات التجارة الحرة حيز التطبيق في الفاتح من يناير 2005.
3 السؤال المفتاح هو: لأيّ سبب أخفقت تونس في الحصول على رتبة "شريك متميز" من لدن الاتحاد الأروبي؟ ولماذا تقدمتها في ذلك بلدان مغاربية أدنى منها عصرنة في البنية التحتية من مثل المغرب الأقصى؟
4 تونس أقرب جار للاتحاد الأروبي جغرافيا والحدود البحرية على مرمى بصر ومن أهم مميزاتها الاقتصادية شواطؤها الجميلة للسياحة والطويلة للصيد فضلا عن زيت الزيتون ذي الجودة العالية جدا على المستوى الدولي والإنتاج في حقل القوارص والصناعات التقليدية لولا أنّ الخيار الاقتصادي الذي تبنته السلطة من قديم مفروضا عليها في جزء كبير منه ضمن عمليات مقايضة غير متكافئة بينها وبين المصارف الدولية وبعض الشركاء الغربيين على أساس التعويل على القطاع الخدماتي الهش (السياحة ومستلزماتها رغم طابعها الموسمي) وتهميش القطاعين الأولي (الفلاحة والصناعة) والثانوي (التجارة والتحويليات) في مؤامرة واضحة المعالم أدت إلى اعتماد البلاد على فتات الموائد الغربية ومصارف العولمة والرأسمالية الجشعة اعتمادا شبه كلي فضلا عن الآثار الاجتماعية والقيمية بالغة السوء التي جنت منها البلاد شرا ليس آخره بحسب مصدر حكومي رسمي نقلته جريدة الصباح الحكومية في الأيام المنصرمة بلوغ نسبة العزوبة أعلى مستوى لها منذ تأسيس الدولة الحديثة قبل أزيد من نصف قرن كامل (نسبة قاربت نصف السكان) وكذلك بلوغ نسبة معدل زواج الرجال 40 عاما لأول مرة و30 عاما للنساء لأول مرة كذلك.
5 لا شيء يعكر إذن صفو الاتحاد الأروبي مع شريكه التونسي على المستوى الاقتصادي: بلدة طيبة و حكومة لينة مطيعة لا ترد يد شريك غربي حتى لو حول البلاد إلى ناد للعراة أو حديقة خلفية تؤمن للشقر والشقراوات صيفا وديعا يدفنون فيه كآبة عام كامل من حياة القحط القيمي والجدب الاجتماعي في أروبا.. حتى لو فرض على التونسيين أن يهيؤوا أوضاعهم المهنية لخدمة السائح في مقابل تنكرهم للفلاحة والزراعة والصناعة وما به تتقدم الأمم ويرغد به عيشهم..
6 إلا شيئا واحدا أكره الاتحاد الأروبي على الضن على شريكه التونسي بصفة شريك متميز. هو: التطرف المغالي جدا في التضييق على الحريات في كل الفضاءات ومع كل الألوان السياسية والفكرية إلى حد القرف الذي لم يعد يسع الاتحاد الأروبي قبوله من شريكه التونسي الذي يهدد بتطرفه العدواني ضد الحقوق والكرامات والحرمات الأسس الديمقراطية والحقوقية التي يقوم عليها المشروع الأروبي السياسي الحديث في إثر انحسام المعركة التاريخية بين كهنة الكنيسة والنهضة العلمية.
7 ولكن من يحرض الأروبيين ضد الشريك التونسي؟ البوليس التونسي (أي الدولة القائمة على الإدارة البوليسية) يتهم معارضين سياسيين وحقوقيين مقيمين في أروبا من مثل خميس الشماري وكمال الجندوبي وغيرهما ممن له صلات قوية بالاتحاد الأروبي.
سؤالان بالمناسبة
1 السؤال الأول: ما هي المعاني السياسية لهذا التعديل القانوني الجديد؟ 2 السؤال الثاني: من يهدد المصالح الاقتصادية التونسية حقا؟ ضاقت البلاد بأهلها والسلطة في تراجع مخيف جدا وسريع جدا. لك أن تتصور كيف تنعقد أعلى سلطة تشريعية في البلاد من حيث الترتيب الدستوري (مجلس النواب رغم أنّ النظام التونسي رئاسي) لتصادق على قانون مقدم من الحكومة (للإيهام بأنّ الدولة تفصل بين السلطات في بلاد لا وجود فيها لغير سلطة العائلة الحاكمة وبوليسها) يقضي بتجريم معارضين تونسيين مقيمين في الخارج لم يعرف عنهم سوى المعارضة الحقوقية والفكرية والسياسية بالأساليب المدنية الديمقراطية الحديثة .. تجريمهم على خلفية علاقاتهم النافذة مع الاتحاد الأروبي وتوظيف تلك العلاقات لخدمة قضية الحريات المغتصبة في تونس!! ألا يعكس ذلك حالة التراجع المخيفة جدا والسريعة جدا للسلطة التي حذرها الاتحاد الأروبي ومؤسسات حقوقية دولية رسمية وأهلية كثيرا وطويلا ومنذ سنوات خلت من مغبة التمادي في التطرف المغالي في إعلان الحرب ضد كرامات الناس وحرماتهم دون مبرر فضلا عن أخذ الناس بالجملة وبالظنة وعقاب ذوي الفارين منهم!!
كيف كانت الحملة ضد النهضة حملة ضد المجتمع كله.
بدأت الحملة قبل أزيد من عشرين عاما كاملة ضد حركة النهضة ولكن سرعان ما طالت الحملة كل مكونات المجتمع المدني بما يذكرك بالدبابة الإسرائيلية العمياء الحمقاء عندما تجرف كل ما هو نابت في طريقها. ذلك هو درس عقدين كاملين من جنون العائلة الحاكمة: ضرب النهضة أفضى بالضرورة إلى ضرب المجتمع كله (أجل. المجتمع كله وفي كل الحقول دون أدنى مبالغة). لماذا؟ لأنّ النهضة مكون أساسي من مكونات المجتمع وليس شيئا طارئا عليه يمكن اجتثاثها بسرعة. لماذا؟ لأنّ قضية النهضة قضية حريات وليست قضية أخرى ولو كانت قضية أخرى خاصة بها لكان اجتثاث النهضة بقضيتها الخاصة بها أيسر من ملء كوب من حنفية ماء. ذلك درس لم تستوعبه السلطة وأنى لأصم أن يستوعب زلزلة جبل اندك بين يديه؟ ذانك معنيان سياسيان مهم جدا التقاطهما: السلطة بصدد الانتحار والمجهول يهدد مستقبل البلاد والتركات ثقيلة مخيفة في كل الحقول وعلى الإسلاميين وشركائهم من المعارضة والنخبة تحمل المسؤولية كاملة. مسؤولية لبها: العقلانية السياسية من جهة هدوء ودأبا على العمل المعارض الجاد والتعاون من لدن الجميع على قضية الحريات والديمقراطية من جهة أخرى. أما المعنى الثاني فهو ضرورة استيعاب الإسلاميين في الفضاء السياسي والحزبي والإعلامي بعدما تبين أن تواصل اضطهادهم على امتداد عقدين كاملين أدى بالضرورة إلى اضطهاد كل صوت حر وكل معارض بما جنى على البنية الاجتماعية والقيمية للبلاد جنايات لا تجبر عاهاتها. العائلة الحاكمة هي التي تهدد المصالح الاقتصادية للبلاد وليس المعارضة. هل أنّ العائلة الحاكمة التي أقدمت على سنّ هذا القانون الجديد من البلاهة بمكان يجعلها تظن أن الاتحاد الأروبي عجينة طيعة لينة في أيدي السيدين الشماري والجندوبي؟ طبعا لا؟ أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أنّ السلطة تطرفت في حرب الحريات واضطهاد الحقوق تطرفا غير مقبول بكل المقاييس إلى حد دفع الاتحاد الأروبي إلى نبذ شراكة تونسية تناصب الحريات العداء المستحكم في كل الأوقات وضد كل الألوان!!! من يهدد المصالح الاقتصادية التونسية ليست المعارضة التي لا تزيد على عرض الصورة الحقوقية المأساوية في البلاد على أنظار الاتحاد الأروبي كما هي وهو عمل وطني يساهم في إنقاذ البلاد من سياسات النهب والسلب والإفساد في الأرض .. إنما الذي يهدد تلك المصالح هي العائلة الحاكمة التي أطلقت أيدي عملائها من الميليشات والبوليس والمنتفعين والمقربين دون قيد بمثل ما يطلق الباغي كلابه وذئابه تنهش وتذبح وتعبث دون قيد.. هل تظنّ أنّ بنك الزيتونة "الإسلامي" المؤسس أخيرا في تونس يمكن أن يكون شجرة تخفي غابة النهب والسلب والفساد أو مسحوقا يزين الوجه الكالح لعصابات النهب أو محاولة صادقة يمكن أن تتوفر لها أسباب التأثير الإيجابي.. الأيام الحبلى ستجيبك بحوله سبحانه وتعالى..