مضت الايام بطيئة رمادية ، تمسح النفس بصفرة غامضة ، تحيل المستقبل إلى شيء يصعب تصوره ، هو عبارة عن كتلة هاربة من الأحلام القزحية ، لا تكاد تستقر صورة حتى تعقبها أخرى فتمحوها ، بلحسن ، رجل يسرق المسروق ، يسلب الموتى ، نهم للمال كما للتسلط.. ربما يشعر بالخوف من المستقبل ، و بالذات من دوران الايام و جورها .. هو يخاف مرؤوسيه ، كما يخاف رؤساءه ، قد يذهب كشربة ماء ذات صباح ... قد يكون فدية للتناطح بين القطط السمان في الداخلية ... ولذلك قرر أن يسرق ... إنه ليس الوحيد ، كل مدراء السجون سارقون ، ومن عينوهم سارقون ... والذي عين من عينوهم سارق ... صحيح أنه لا يدير حقل البرمة ، ولكن دائما هناك ما (يتمرمش) ولو كانت ميزانية السجن المعدة لألفي سجين دفنوا هناك بين الحياة والموت ... الميزانية البخسة اساسا لاطعام المساجين ، نهبها بلحسن ، بنى منها فيلا جميلة من طابقين كبيرين في المروج ... سبحان الله الم اقل لك بأنهم بارعون في تحويل الاشياء ... هو مضطر لأن يسرق المساكين نهارا لكي ينعم في قُصيْره الجميل ليلا...هو يعرف انه و رغم علمهم براتبه المحدود ، لن يسألوه من اين لك هذا ...أما المساجين فليس لهم منفذ للشكوى ، سيجوعون ، و يمرضون ، ثم يموتون وهو مرتاح الضمير لانه يقوم بواجبه ضد اعداء الوطن ... سياسة التجويع هذه يا صديقي يقول ظافر جعلتنا نمشي أشباحا ، ونجلس هياكل عظامها ناتئة ... كنا بين نارين ، نكابدها ... الحفاظ على التماسك امام العائلات ، فلا نشكوا لها دمارنا كي نحفظ للآباء والامهات شيئا من الراحة النفسية ولكي لا تتحول حيواتهم إلى بحر من الجحيم والقلق ... نعم كنا نكذب عليهم ، وقد نشكر لهم الإدارة وعلى مسمع الاعوان على حسن المعاملة ... ثم ما ان تنقضي الزيارة و نستلم القفة حتى ينادوننا جانبا : خذ تفاحة واحدة من قفة امك والبقية للمزبلة ... لماذا كل هذا الكسكسي ، ضع نصفه في المزبلة.... خمس لترات من الزيت ، آه .. هذا كثير ... افرغه في المزبلة وابق فقط مقدار نصف لتر لك ...هذا يكفيك .. هكذا كانت القفة تأتي ملانة للسجن ، وبين شباك الزيارة وغرفتك ، يضيع ثلثاها في مزبلة السجن... قد يذكرك رجل اسمه علي نور الدين ، لبناني من الفرقة 17 لمنظمة التحرير الفلسطينية، دخل السجن ضمن تصفيات داخلية للمنظمة ، ان له صديقا غزاويا كان معنا ، اسمه المقداد ، وقف ذات يوم بعد ان نفد صبره من الجوع ، صعد شباك الغرفة ، نظر إلى الاعوان المتجمعين في السقيفة و صاح فيهم: يا كلاب ، والله العظيم سجنت خمس سنين عند اليهود ، ولم يجوعوني مثلكم ، لعنة الله عليكم... كانت سنوات اكل العشب التي يجود بها بلحسن ، تنخرنا ، تتحول ماساتنا مع الايام إلى الصمت ، انصهرنا فيها وانصهرت فينا ... التفت الكل إلى القرآن حفظا و تكرارا ... لجأنا إلى تفسير الاحلام ... لم يبق لنا غيرها من منفذ إلى الامل ...نمتص المهانات والمجاعة و الامراض بقدرة عجيبة إلى ان جاء اليوم الذي وقف فيه حمار الشيخ ... ذات شهر مايو من سنة 1996 للميلاد ... صادف ذلك اليوم المولد النبوي الشريف ... ست عجاف مضين على سجننا و تنكيلنا ، ربما أراد القائمون على المخبر ، فحصنا ، ربما ارادوا معرفة نتائج ابحاثهم فينا...إلى ايّ مدى انهارت عزائمنا ... لقد عرفوا منا تنازلات جمة ... ارادوا المضي إلى الامام ، ربما... هم يعرفون ان التيار الإسلامي هو الغالبية الساحقة في السجون ...ولذلك كان محور الصراع هو المصحف والصلاة ، و الصوم ... محاولات افتكاك المصحف باءت بالفشل.. لكن نجحوا في منع الجماعة و النافلة ... هذه المرة ارادوا ان يذهبوا اكثر...ابعد...في هذه الليلة ارادوا مهاجمة الفريضة ..منعها .. جاءنا نائب المدير ، وقف كالطاووس ، سكت الكل ، قال في زهو جاهلي: الصلاة ممنوعة منعا باتا ،من الثامنة ليلا ، حتى الثامنة صباحا.. ثم الحقها كالعادة بالتهديد والوعيد ، وخرج ليكمل عدة الغرف... هنا وقف رجل واحد ، المنتصر الكيلاني ،ليرميها في وجهه : انا شخصيا لن التزم ولتفعلوا بي ما شئتم... كان هذا اليوم ، له ما بعده في ما سيليه لايام سجناء الصبغة الخاصة ... لم تكن الإدارة تتوقع رد الفعل ، اما نحن فلم نكن نتوقع النتائج ...لقد كان ذلك الحدث نقلة من حالة الدفاع ، إلى حالة الهجوم ... إنه يوم من ايام الله... يتبع بإذن الله