كان لابد من هذا الكم الهائل من القهر، لتنجح عصبة الفساد في بلد الزيتونة في غرس نبتتها الخبيثة ، التي سمتها شجرة الآفات الثلاث : فامْ ، فِيستِفَال، فوتبول ، كبديل ثقافي لملىء الفراغ عند تجفيف ينابيع الزيتونة ، وحتى تتحول بقدرة ساحر ، وبالتوازي مع القهر ، إلى بلد السِّينات الثلاث : ساكس ، سابْل ، سولايْ ، تلك هي الحقيقة ، إذ لم يغفر لهذا البلد ، أن كان ذات فصل من التاريخ منارة للحوض الغربي للمتوسط كله ، و الهَمَ كل من درس فيه ،مقاومة المستعمر حتى ادغال افريقيا ... تواطأ أحرار العالم ، ان يكون العاشر من شهر ديسمبر(كانون الاول) ،مناسبة للوقوف على الاوضاع المزرية للخليقة ، في انحدارها الرهيب ، في اشقى قرن عرفه الإنسان على الإطلاق ...اخترنا هذا اليوم ، للاعلان عن اضراب مفتوح ، لخصنا مطالبنا الكثيرة ، في ثلاث كبرى ، التجميع (ان يفصلونا عن سجناء الحق العام بعد ان ارهقونا بالصراعات الجانبية) ، والتقريب (يحق للسجين حسب القانون الداخلي للسجون ان يكون في اقرب سجن لذويه)، والمساواة في المعاملة كبقية السجناء ... كنا نمثل عشرة للمائة من مجموع السجناء الستة آلاف ...سجن التاسع من أفريل ، ممتد جدا ، له اجنحة لا تعد ، لكن المشكلة انها مفصولة بحيطان عالية تحجب كل جناح عما جاوره ، بطريقة ما استطعنا التواصل ، كانت الحيطان و (الصبابة) ، تفرض علينا الحفر في الصخر لإيجاد الحلول ... إنه الجو المثالي لازدهار العمل السرّي ، حيث على المرء ان يعيش بأربعة أرواح ، ويفتح اربعة أعين ، وفي النهاية تنتهي البلاد إلى كلٍّ متربص بكل... في هذا اليوم ، كانت العنابر في الساعة العاشرة صباحا تقيء خبزا ، هكذا وبشكل مباغت للكل ، و في الساعة الصفر ، يُخرج مجموعات الصبغة الخاصة ، من كل الغرف ، ما مجموعه الفين و اربعمائة خبزة ، بما لا يحتاج معه لشرح الموقف ...كانت صدمة اكبر إدارة لسجن في البلاد ، هائلة ... مفاجأة الإضراب جعلتهم يضطربون ، ليس هناك أيّ علم مسبق ، ولو إشارة عابرة عن هذا الذي يحدث ... نطق عون ما بما يشبه الحقيقة : إذا رايت احد جماعة الانتماء يعطس ملتفتا إلى اي شباك في السجن ، فاعلم ان لعطسته مدلولا... هذه المرة ، لم يتدخلوا ، راهنوا على الوقت ، كي تخور عزائمنا ... فتح ظافر قوسا في كلامه قائلا : عندما تكون مضربا عن الطعام ، واقصد به الإضراب العادي ، حيث تشرب الماء وتأكل شيئا من السكر ،حتى لا تنهار كُلْيتاك ، وعند إخواننا في فلسطين ، ماء و ملح ، اما الإضراب الوحشيّ ، فهو أن تنقطع نهائيا عن الاكل والشرب و معه يمكن ان تعيش ثلاثة اسابيع لتفارق الحياة .أقول وانت مضرب عن الطعام ، يغمرك إحساس بصداقة عزرائيل ، تمد له يدك باستعطاف لينقذك من هذا العالم ، تنظر إلى صديقك يذوي امامك ،يشحب ،يبتسم كالشهيد ، ينخرك الجوع ، رائحة الصُّبَّة التي كنت تعافها تصبح اشهى من رائحة الشواء ...معدتك تضغط عليك ، تفلسف لك الإستسلام ،تبرر لك الهزيمة ... بعد مده يصبح الماء مرا ،السكر مرا في ريقك ، تعافه ،تود ألا ترى سكرا في حياتك ...إن اردت الوقوف تشعر بدوخة ودوران في الرأس ، تزفر ، روحك لا تحتمل جسمك الخاوي ...جلدك يصفر ، الصور في الذهن تتلاشى ، تصبح بعيدة بعيدة... حلمك يصبح شفافا ، نورانيا .. شحمك يذوب رويدا رويدا ، عظامك تصبح في متناول العد والتمحيص.... تقترب من الموت ، تشاهده ، هناك ، امامك ، ليس بعيدا ...ملك الموت يبتسم لك في صفرة ، يمد يده نحوك ... قد يهيأ لك أنه يناديك : تعال.... أنت في نظر السجناء العاديين لغز ما يكاد ينفك منه طلسم ، حتى يتعقد من جديد ... خلال الإضراب ، يتحاشوْك ... يصمتون كمن يصاحب جنازة ... يتمنون ان يكونوا مثلك ، ان يفهموك... مضت الاسابيع جنائزية ، البعض منا تعب ، انهار جسده ، لكن روحه في كبرياء .. تريد أن تشرق إلى ربها ، أتعبها الدنس الأرضي ، تتطلع إلى عالم النور الجميل ... هناك ، حيث البهاء العظيم ، والصفاء المطلق ، والنعيم المقيم ... المعادلة تتجه نحو الزهد ، والكره العميق لحياة الذل المقيت ... الموت يصبح امنية حلوة ، لكنها بعيدة المنال ... في هذه الأثناء تراجع نفسك ، هل من شيء يستحق الحياة ؟ لكي تكتشفت صورة الدنيا عليك ان تمشي عكس التيار ، ان تخرج من الطابور ... ان ترى الصورة بشكل معاكس ... لم يفلح الوقت في فت ارادتنا ... كانت روح التحدي تفرض على الرجال عدم الإنحناء او التراجع ... وفي الأدنى كان الشعور بالكرامة و الإباء يمنع الكثيرين من الإنهيار ... حتى جاء الفرج ... طلبوا من كل الغرف انتخاب ممثلين عنهم ، ليفاوضوا الإدارة في مطالبهم ، وهكذا تشكلت لجان ، ليقابلوا المدير .. هذه المرة فهموا ان السؤال عن كيفية التنسيق هو عبث ما وراءه طائل... دخلوا في الموضوع مباشرة ... ماذا تريدون ... قُوَّتُك عندما تكون في أرضك ، في وطنك ، وإن كنت منزوع المواطنة ، انك تقف على أرض صلبة ، عندما تتكلم ، فبملئ شدقيك ...هناك قوة ما للكلمة ، يشعر بها الطاغية ، فيخنس ... كنا نتكلم و هم مطرقون ...عندما تتوفر لك فرصة للحوار ، فإنك منتصر بحجتك إن كان لك حجة ... مشكلتنا كانت و لا تزال ، مع من يرفض أن يعترف بنا و يحاورنا... افضت هذه المفاوضات ، عن حل الإضراب ، وتحسين الوضعية بشكل جذري ، لكن دون السقف المرفوع ... اصبحنا احرارا في إطار السجن ، منذ ذلك اليوم ،كانت شعرة معاوية هي الإساس في معاملتنا معهم ، لكن لم يجرؤوا بعدها على ان يحاولوا معنا ما فعلوه قديما ، فكلما عادوا عدنا.. .