المسؤولون عن الثقافة في الجزائر يختلفون في نظرتهم إلى الفعل الثقافي، كل و له وجهة نظره الخاصة به حول ماهية الثقافة و الفعل الثقافي ، عندما عملت في إحدى الصحف الوطنية طلب مني رئيس قسم الثقافي أن أحضر له موضوعا في الثقافة، و كان هذا المسؤول قد رفض الفكرة ، بل الموضوع الذي كان بعنوان : "الثقافة في الجزائر إلى أين؟ " قائلا لي : أنا أبحث عن ثقافة "التبلعيط" و فهمت من كلامه أنه يبحث عن ثقافة "الشارع" ، لخلق نوع من الإثارة ليس إلا، و لم أجد من مهرب لإيصال هذا الموضوع إلى القارئ سوى الإنترنت عبر مدونتي " والقلم" ، و ربما هو محق في اختيار هذا النوع من الملفات الثقافية ، كونها تتماشى مع ما يلبي رغبة شباب العصر المخدر بكل ما هو غربي ، و أنه يدعو إلى تجديد القديم و تحديث الأصيل و إعطائه صبغة معاصرة وفق ما تتطلبه "العولمة"، و نسمع اليوم مسؤول عن الثقافة في قسنطينة يؤكد في ندوة صحفية تتعلق بملتقى مالك حداد أن الثقافة هي ثقافة "النخبة".. الوقوف مع الرأي الأول يدعو إلى إلغاء المثقف "الملتزم" ذلك الذي يكرس جهده و وقته و حياته من أجل قضية يؤمن بها ، لأن ثقافة الشارع تفتقر كما يرى الخبراء في الشأن الثقافي إلى منهج نقدي في النظرة إلى الواقع و بالتالي يصعب على هذا النوع من المثقفين تصحيح مسار هذا الواقع و تطوره، و في غياب هذا المنهج يبقى المجتمع دائما يبحث عن المثقف "الملتزم" لكي يتحمل أعباء ترميم ما أفسده "النظام" .. أما الرأي الثاني فهو يريد أن يقطع الصلة بين "المثقف" و "الجمهور" الذي يشكل العمود الفقري للمثقف ، و بدون هذا الأخير لن تكون هناك ثقافة، لأن الثقافة ك: "منتوج" تبحث لها عن "مستهلك" ، و باعتراف منه يكشف هذا المسؤول، أن تظاهرة من التظاهرات الثقافية التي نظمت بمدينة قسنطينة مؤخرا ، لم تشهد أي إقبال من طرف " الجمهور" و كان الحاضرون سوى المسؤولون الذين سهروا على تنظيم هذه التظاهرة، و ذلك بحجة بُعْد المسافة، و رحت أتساءل و نفسي، هل نسي هذا المسؤول أن هناك ثقافة جماهيرية لها قواعدها ومقاييسها الخاصة و لماذا لا يسعى مسؤولونا إلى نشر هذا النوع من الثقافة .. غياب "الجمهور" يعني غياب شرائح عديدة من الطلبة و المثقفين و المبدعين و المتذوقين للثقافة و الفن و الإبداع، الذين يشكلون "الجمهور" الذي أصبحت له مطالب عديدة، فهو يبحث عن الجديد، عن الفعل الثقافي و هذا يعني أن ثقافة " الاجترار" أو ثقافة "العنعنة" غير مرغوب فيها..، وفي غياب هذا العنصر ( أي الجمهور) لا يجد المثقف كيف يزرع فكرته أو كيف يروج لنظرية اخترعها لعلاج القضايا المطروحة، إذا قلنا أن الثقافة الجماهيرية كاصطلاح ثقافي سياسي تعتبر الشكل الأرقى لمفهوم الثقافة الوطنية والطبقية الشعبية، أي أنها تسيطر على شرائح المجتمع .. في حين تشكل النخبة " الأقلية"، إذا قلنا أن هذه الأخيرة أصبحت متعلقة بالسلطة و لا نجدها إلا في الأحزاب السياسية من أجل الحصول على حقيبة وزارية أو منصب في إحدى المناصب العليا ، و إذا قلنا بأن الثقافة هي ثقافة النخبة ، فهذا لا يعني أن كل من هو متعلم مثقف، أو كل من يجلس على كرسي المسؤولية مثقف.. يفسر المحللون السياسيون أن دور المثقف لم يعد يأخذ له مكانا أمامي أو جانبي، أي الوقوف الند للند أمام السلطة، لكي يقول الحقيقة الصامتة للجميع، بل يقف وراءها و هنا يأخذ المثقف شكل التابع للسلطة، لأنها مارست سلطانها عليه داخل المجتمع، وتمددت و اخترقت نسيج الحياة التي يعيشها المثقف، و في كل هذا وذاك يبقى المثقف في صراع بين ثنائية الولاء و الاعتراض، الانتماء و اللاانتماء، التصالح و الكراهية، الوصل و الفصل و ينقله هذا الصراع إلى حالة من التوتر و اللايقين و ربما يصلح هذا الصراع أن يكون مسرحية يقف الجمهور على مشهد من مشاهدها حتى يكون له الاختيار بين ال: "مع" و ال: "ضد".. و نقف مع عالم الاجتماع و الأبستمولوجية الفرنسي "ادغار موران" سنة 1962 عندما صرح، أن المثقف اليوم هو أن يعلن أنه لا يوجد نبأ سعيد و ألا يتوقع من "السلطة" حتى لو أنعمت عليه بما لديها من الديمقراطية مستقبلا مضيئا، و يقف إلى جانب هذا الموقف "ميشال فوكو" الذي يرى أن السلطة "عمياء لا ترى ولا تتكلم ن و هي مثل فأرة لا ترى بوضوح إلا داخل جحرها و في متاهات الممرات الأرضية، لقد ميّز "ميشال فوكو" بين المثقف "الكوني" و المثقف "المتخصص"، إذ يقول : إن المثقف الكوني يعتبر نفسه مالك للحقيقة و العدالة، أي أن يكون المرء مثقفا، معناه أن يكون ضمير المجتمع و ممثله، أما المثقف المتخصص فهم مثقف في حدود معينة و في مجالات محددة ، أي أنه لا يكون مثقفا إلا في مجال اختصاصه، في ظروف عمله و شروط حياته، و من هنا بدأت علاقة القوى بين المثقف و السلطة، بحيث منحت الاجتهادات الفلسفية السياسية الحديث مقولة، المثقف و السلطة أبعادا أكثر عمقا، و مع ميشال فوكو بدأت مغامرة جديدة ، تجاوزت التساؤل حول وضعية المثقف بل بداية الإعلان عن وفاته، لأن الجماهير لم تعد تحتاج إليه لمعرفة واقعها، غير أن السلطة يمنعها من ذلك و يجعلها مرتبطة بهذا الذي نسميه "المثقف" لأن هذا الأخير كما يراه ميشال فوكو يشكل جزءا من نظام السلطة، و يشكل أدوات الوعي و الخطاب الذي يشكل أيضا جزءا من نظام السلطة.. فما تزال إشكالية المثقف "الملتزم" مطروحة للنقاش ، لأنها تبحث عن المثقف "المتحرر" الواعي لمشاكل مجتمعه و قضاياه حتى لو كانت صغيرة، لأن في المجتمع أفكارا و آراء و مواقف متعددة بل متعارضة كذلك، تنبع أساسا من تعدد و تعارض المصالح الموجودة في المجتمع، إن هذه الإشكالية تطرح بدورها دور "النخبة" التي غالبا ما نجدها أسيرة منطلقات طائفية ما ( حزب أو مذهب) و أخرى تعيش خارج السرب و تضع نفسها في برج من زجاج بعيد عن الصراع المتشعب و تعتبر نفسها غير معنية بما يحدث ، فكانت خارج الزمان و المكان و تخلت عن واجبها كنخبة.. "الانتماء و اللاانتماء، التصالح و الكراهية، الولاء و الاعتراض أو العداء، الوصل و الفصل..و..و.." مصطلحات ثنائية تشكل صراعا يعيشه "المثقف" أينما كان ، بحيث ينقله هذا الصراع إلى حالة من التوتر و اللايقين، و ربما يصلح هذا الصراع أن يكون مسرحية يقف الجمهور على مشهد من مشاهدها حتى يكون له الاختيار بين ال: " مع" و ال: "الضد"