يقول ظافر: ماذا كنت أفعل بالهدوء منذ سنوات خلت، إذ انطويت على نفسي وبايعت الأحزان. فها هو لساني يتنكر لعباراتي وأجفاني لعبراتي، فلا تخرج إلا شتيتا متنافرا، فأنا أشعر بشبه ضياع تام حين يسكنني وجع الوطن، بخواص تربته وأكوام رماده، ووحشة ندوبه الغائرة، ومنابره الحائره، وفلوله المجخية الشاغرة، وثقوب عشقه التي تجري في أخاديده "ظمأ". فأهتف فيه من خلف زنزانتي ومهجري: "قم سويا نحفر نقشا على حجر/ (أنا المسافر... وانت القتيل). هذا حديث النفس حين يعترف (ظافر) لليل في سجوته عن عشق كان يسكنه، وغرام فطرني يلازمه, وتفاصيل أيام عنيفة تتحداه وتتجاوز الذاكرة المبعثرة على امتداد اليابسة، التي عجزت حتى السنون على ضبطها وترتيبها، بل قل حتى على وضع مقياس لنظامها... ذاكرة تشظت في هوى المحبوب وتبدت على أطرافه حجرا ومرمرا... تباهت بالحطام وانقشعت مع الغيمة (واو من الفجيعة لاوية .. وطاء من الجوع طاوية... ونون من الحزن ثاوية(. يجب علي أن أقول كل شيء حتى وإن أحرج... أو أخرج الخفايا المقموعة. فكل ما ينتصب في الواقع من الفوضى والتيه والتوتر... نسيج من أيام مضطربة ونفوس حزينة ورؤوس خالطها الصداع... ووجع الوداع... يقو ل ظافر.
في علو يتعالى حتى على النفس يبدو (ظافر) مغلولا بصور ذاكرة تحكم خناقه وتشغله بماضيه عن حاضره وبحاضره عن ماضيه...، تلك هي صورة لامرأة شقية تساكنه السجن، في مهجع لصيق يسمى في عرف السجن ببيت "الاعتراف". لا يدري (ظافر) تماما لماذا اختاروا له زنزانة بكفاحها... تهمس في أذنه من ثقب الباب الحديدي مع كل دعوة للتحقيق أن يفاتحها بكلمة أو بنظرة، أن يكتب لها كلمة... بل حرفا واحدا... محرما وشقيا. بدا كأنه لا يعرفها تنكر لها بين أيدي السجانين... و لكن إلى حين... أنت تتوسل إليه أن "يطلقها"... لا رغبة عنه ولا كرها له.... ولكن خوفا عليه من حتمية الفاجعة... كان ذلك في غفلة السجانين وأحيانا كثيرة كان على مقربة منهم وتحت حسهم، لكنهم كانوا لا يسمعون أو قل لا يفقهون..!!! هل تعمل هذه الحسناء معهم؟... وإن كان ذلك كذلك... فلماذا يسجنونها.... يقول ظافر. لقد أصخت إليها ذات ليلة وهي تغني أغنية "للبحث الموسيقي"..... لقد كانت أجمل صوتا وأندى أداء من أمال الحمروني... يقول ظافر. "هيلة ... هيلة يا مطر اغسلي أوراق الشجر الحلم مثل الورد يكبر والهلال يصبح قمر..." وأعترف أني راقبتها يوما من كوة الزنزانة بكل براءة وصفاء، وهي تصفف شعرها الفاحم المصبوغ بحمرة، وقد ترقرقت في عينيها دمعة تحدرت على خط صقيل حارة، كدم عبيط يشخب من أطراف الشهيد. كانت امرأة أبية "السَوق" لا تخضع للسجانين ولا تلين لهم بطرف... ولا قول... ذات لسان صارم... وعينان حادتان ثاقبتان كالحدأة. فيها من الصدق ما في الطين البليل من الماء... كانت مضرجة الأيادي من الدماء.... لقد طرقت أبواب الوطن زمن الاحتلال الفرنسي... وها هي اليوم تطرق زنازين المسجونين وتهمس لغوايتهم... كما طرقت قلوب الشهداء بالأمس فاستجابوا لها ملبين... كانت ولا تزال آية في الجمال ما رأت عيني مثلها ولن ترى... يقول ظافر. ما من حر رآها إلا وتعلق قلبه بها... وهام في إثرها لا يلوي على صبر ولا يخشى رقيب.... صارحتني يقول ظافر.. ذات يوم همسا: بمقال لا يدعو للشك أنك باق في السجن أبدا ما حييت فهو مستقبلك الأوحد وقبرك الأمثل، فاحزن أو ابتئس... تجلد أو قاوم.... إن لم تساعدني على أن أكون لك قرينة فليس لك في الحياة من طعم... وإن وزرت... أو ملكت...
كان باب زنزانتها مميزا ظاهرا للجميع... كشارات المرور يقف أمامه كل حر... وصاحب قانون وباغي خير...!!!.
لقد كانت خلاف النساء بشرة... كانت حمراء قانية أطول الحضور قامة في كل وطن... تلك هي الوحيدة من بنات حواء التي رضيت بالتعدد من الأزواج دون غضاضة أو كلل... وبكل روح شابقة... أقبلت على كتابة عقودها الحلال من كل أحرار الأرض تنجب لهم النصر وتنسج لهم الصبر... وتبغي لهم الظفر...
وبكل "أريحية" سألت بعضهم طلاقها... ولو بكلمة... أو حرف واحد محرما وشقيا:... الخضوع ... الذل... الخيانة... كانت تلك هي الحرية التي راودت ظافر في "البرزخ" والبرزخ كما يقول الراوي "من الداخلية الى القبر ...."