يبدو أن الذي حدث في باريس لا يعكس إخفاقا أمنيا أو استخباراتيا بقدر ما يعكس إفلاسا حضاريا وثقافيا وإلا فما معنى أن ينتصر هؤلاء الإرهابيون للإسلام ويدّعون بأنهم انتقموا للنبي محمد في نفس العملية التي أجهزوا فيها على شاب مسلم من أمّة محمد ذنبه الوحيد أنه يقيم على أرض فرنسا كما يقيم عليها الإرهابيون مقترفو مجزرة شارلي إيبدو. وبعيدا عن السطحية ووقفات التنديد في ساحة الجمهورية بباريس وإيقاد الشموع في المرسى أمام إقامة السفير الفرنسي علينا أن ندرك جميعا أننا اليوم نعيش مع الإرهاب كظاهرة كونية فينا من اختارها وفينا من فُرضت عليه فرضا في عقر داره. والعرب عموما متمرّسون على ''التعايش البغيض'' مع الإرهاب بفعل إرهاب الدولة الذي كانت تمارسه عليهم الأنظمة المستبدة والتي غضّت عنها الطرف الأنظمة ''الديمقراطية'' بل وتعاملت معها على أنها أنظمة شرعية. وكم اغتيلت حرية التعبير في بلداننا ولم تحرك الدول الأوروبية وأولهم فرنسا ساكنا ولنا في اغتيال المفكر المصري فرج فودة بسبب أفكاره, وفي كسر أصابع رسام الكاريكاتير السوري الذي يقترب كثيرا في قصته من قصة رسامي شارلي المغدورين خير مثال. ففرزات رسام سوري موهوب أبدع في رسم الكاريكاتير ضد النظام السوري في صحيفته الساخرة ''الدومري'' والتي أوقفها له نظام الأسد عام 2003, ثم وفي 2011 اعترض طريقه ملثمون وكسّروا أصابعه تكسيرا ولم يتحرك العالم ''المتحضر'' المدافع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير إلا بعض الجمعيات والمنظمات قليلة التأثير. لذا نجد أن حادثة مرعبة كحادثة باريس تخدم مصالح أطراف عديدة بعينها وتؤسس لمرحلة جيو سياسية جديدة, ولا تخدم أبدا ''الإسلاميين'' الذين تحركهم أصابع أجهزة المخابرات بخيوط شديدة التشابك. وأغلب الذين سارعوا إلى التنديد والتهويل هي الأطراف المستفيدة من الإرهاب والتطرف بكل أنواعه من الصين إلى إسرائيل مرورا بالتيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا على غرار الجبهة الوطنية الفرنسية وحركة بيغدا الألمانية المعادية للإسلام. ومن جهته نجد رئيس وزراء إسرائيل يسارع باتهام المسلمين ويدّعي أن دولته العنصرية هي ضحية نفس الأطراف في إشارة إلى الفلسطينيين الذين وإلى حد قريب يحظون بدعم سياسي فرنسي من أجل إقامة دولتهم المستقلة. وهذه القوى المتطرفة تسعى إلى تصوير الحدث على أنه صراع ديني بحت يجب مقاومته ''بردّ فعل عالمي'' على حد تعبير نتانياهو مما يذكّرنا بالحروب الصليبية وهي مغالطة كبرى لأن الذي حدث في باريس لا يمكن فصله عن البيئة الفرنسية الداخلية على غرار تهميش المهاجرين العرب والمسلمين ورميهم خارج المدن الكبرى في الضواحي الفقيرة أين يعشش الإرهاب فيتقوقعون داخلها هروبا من نظرات الفرنسيين العنصرية المحتقرة لأصولهم. كما لا يمكن فصل الذي حدث عن بيئة فرنسا الخارجية من خلال دعمها للإرهاب في ليبيا وفي سوريا ولإقامتها علاقات نوعية مع داعمين آخرين للإرهاب في الشرق الأوسط وهما قطر وتركيا اللتين سمحت لهما فرنسا بإحداث جمعيات خيرية واجتماعية انتشرت بكثرة في السنوات الأخيرة على الأراضي الفرنسية وتنشط خاصة داخل أحياء المسلمين الفقيرة ونحن نعلم كم تمرر هذه الجمعيات الخيرية المشبوهة من رسائل تشجع على الإرهاب. نددوا واحتجوا على محاولة قمع حرية التعبير كما شئتم وأوقدوا الشموع أين شئتم, فهذا حقكم ولكن لا تنسوا أن المعطيات التي كنا نتحدث عنها على غاية من الأهمية في معادلة مجزرة شارلي إيبدو.