أطلق مركز فيريل للدراسات في برلين تقريرًا بعنوان: «سوريا الثالثة عالميًا في إنتاج الغاز». ويركز التقرير على النواحي السياسية للصراع في سوريا، كما يحاول صوغ تبرير مفاده أن لأي تدخل خارجي بسوريا علاقة مباشرة بالغاز. لا خلاف حول النقلة النوعية التي شهدتها بداية الألفية الثالثة في صناعة استخراج الغاز الطبيعي وتسويقه، والتي اكد عليها تقرير وكالة الطاقة الدولية 2011 حين أشار إلى أن العالم دخل في «عصر الغاز الذهبي». وفي تقرير سابق، توقعت وكالة الطاقة الدولية أن يحلّ الغاز الطبيعي محل الفحم الحجري بحلول عام 2020 كثاني أكبر مصدر للطاقة الأولية في العالم بعد النفط، وهذا التوقع أخذ في الاعتبار زيادة الطلب على الغاز الطبيعي من دول آسيا الصناعية الكبرى مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية. وقد شهدت السنوات الأخيرة اعتماداً على الغاز عالميًا، ما أدى الى تحول الصراع العالمي من البترول إلى الغاز، وأصبح وسيلة أو أداة سياسية تخدم الأهداف الإستراتيجية للدول المنتجة. ولعل خير مثال على ذلك أن روسيا تستخدم الغاز الذي تنتجه وتقوم بتسويقه إلى أوروبا الغربية والشرقية لتحقيق أهداف إستراتيجية وفرض الهيمنة من خلال توفير الطاقة لمن يحتاجها، كما هناك اعتقاد سائد مفاده أن للتدخل الإيراني في سوريا - كما للتدخل الروسي - أهدافًا سياسية واقتصادية، بينها الدخول في مشروعات بناء أنابيب لتوصيل الغاز إلى أوروبا. خارطة سياسية في السنوات ألأخيرة، سلط الضوء على أعمال الاكتشاف والتنقيب على الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتم اكتشاف احتياطي هائل في مياه المتوسط قبالة إسرائيل ومصر وقبرص، ومستويات أقل قبالة لبنانوسوريا، تحولت إسرائيل من مستورد الغاز إلى مصدره للدول المجاورة مثل مصر والأردن. وما زال لبنان يسعى إلى منح امتيازات للشركات الأجنبية للمباشرة في أعمال البحث والتنقيب، لكن سوريا لا تزال في نهاية الطابور، على الأقل نظريًا، وإذا تواجد الغاز في المياه الإقليمية لمعظم الدول في المنطقة، فمن الطبيعي أن يكون هناك غاز في المياه الإقليمية السورية، لكن علينا عدم التسرع بطرح أرقام فلكية لكمية الاحتياطيات السورية كما فعل «مركز فيريل للدراسات» الذي يأخذ من برلين مقرًا له، بحسب موقعه الالكتروني. وثمة حديث عن مد خط أنابيب إسرائيلي لتصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر تركيا بعد تطبيع العلاقة مع إسرائيل والتوتر مع روسيا، ما دفع تركيا إلى عدم الاعتماد كليًا على روسياوإيران كمصادر للغاز، فأنقرة التي عانت عزلة دولية خلال الفترة الماضية اضطرت إلى التنازل عن جزء هام من شروطها من أجل إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وأصدرمركز فيريل تقريرًا بقلم جميل شاهين في مارس الماضي، تحت عنوان كبير: «سوريا الثالثة عالميًا في إنتاج الغاز». لكن التقرير ركز على النواحي السياسية للصراع في سوريا وحاول تبرير التدخل الايراني والروسي بأن له أهدافا تتعلق بالغاز وحتى التدخل الأميركي أخيرًا لمحاربة داعش جاء بسبب الغاز. يستنتج الكاتب أن هدف الحرب في سوريا الاستيلاء على تلك الثروات الهائلة. ويبرر رغبة روسياوإيران في البقاء في سوريا بسبب تلك المصالح، ويقول إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد حصته من الغاز السوري، ولهذا تتدخل أميركا في الشأن السوري. ويتطرق التقرير إلى احتياطات واكتشافات الغاز في البحر الأبيض المتوسط من قبل اسرائيل وقبرص ومصر، ويقول إن شاطىء اللاذقية غني جدًا بالاحتياطات، مؤكدًا أن ترتيب سوريا لعام 2008 في احتياطي الغاز كان 43 عالميًا بواقع 240,700 مليون متر مكعب بحسب قائمة الدول التي تحتوي على احتياطات غاز طبيعي مؤكدة. كيف؟ السؤال كيف ستتحول سوريا من المرتبة 43 إلى المرتبة 3 في قائمة الدول المنتجة؟ ما هي الأسس العلمية والفحوص السيسموغرافية التي تثبت ذلك؟ الحقيقة الدامغة التي تؤكدها أرقام وكالة الطاقة الدولية ومركز الدراسات الهيدروكربونية واطلس العالم للطاقة، أن أهم 4 لاعبين في حقل الغاز الطبيعي هم الولاياتالمتحدةوروسيا وقطر وايران. وبحسب أرقام وكالة الطاقة الدولية لعام 2013، أكبر 10 منتجين للغاز هم الولاياتالمتحدة (689 مليار متر مكعب) وروسيا (671 مليار متر مكعب) وإيران (255 مليار متر مكعب) وقطر (161 مليار متر مكعب)، ثم كنداوالصين والنرويج وهولندا والسعودية والجزائر، المقدار الاجمالي للعشرة الأوائل 3479 مليار قدم مكعب. في نوفمبر 2013. ظهر تقرير من مركز الهيدروكاربون التكنولوجي يقول إن 80 % من احتياطي العالم المؤكد للغاز الطبيعي يتواجد في 10 دول وعلى رأسها روسيا وايران وقطر وتركمانستان والولاياتالمتحدة والسعودية والإمارات وفنزويلا ونيجيريا والجزائر، سوريا لا تظهر في قائمة أول عشر دول. وبما يتعلق بالغاز الطبيعي، ظهرت دراسات تشير إلى توافر ما يقارب من 122 ترليون قدم مكعب من الغاز في شرق البحر المتوسط، وحوالى 1.7 مليار برميل من النفط. وهذه في موضع نزاعات تشمل قبرص واسرائيل وتركياولبنان ومصر، لكن سوريا مشغولة بحرب داخلية ولا أحد يعرف بدقة مقدار الاحتياطات المؤكدة في المناطق السورية، ومن المهم الحذر في التعامل مع هذه الأرقام وتفادي القفز إلى استنتاجات تروج أن سوريا ستكون ثالث اكبر منتج للغاز في العالم. لا بد من الاشارة إلى تقرير كتبه ديفيد بطر، الخبير في شؤون الشرق الأوسط والزميل في معهد تشاتام هاوس الملكي للشؤون الدولية في لندن، نشره موقع مركز كارنيغي للبحوث والدراسات الاستراتيجية بتاريخ 19 نوفمبر 2015. ففيه، يرفض الخبير النظرية القائلة إن للتدخل الروسي علاقة بالغاز وأنبوب الغاز القطري. يرسم منظرو نظرية التدخل من أجل الغاز سيناريوهات تتعلق بأنابيب الغاز، وكذلك الاكتشافات المحتملة من الغاز في البحر الأبيض المتوسط وتطويرها. كما أن نظرية اهتمام إيران بالغاز السوري خاطئة، لأن إيران تعتبر من كبار المنتجين وليست بحاجة للغاز السوري. أما الغاز السوري في الاراضي السورية وليس البحرية تم تطويرها خلال 30 عاماً، وكانت تنتج عام 2010 كميات متواضعة تكاد لا تكفي حاجة الاستهلاك الكهربائي الداخلي. بدأ الاهتمام باحتمالات الغاز السوري في البحر المتوسط يظهر أول 10 سنوات من الألفية الثالثة، بعد الاكتشافات التي حققتها قبرص واسرائيل. وكانت سوريا قد طرحت 4 بلوكات للشركات العالمية، لكن التجاوب كان باردًا، ولهذا، في نهاية 2013، تم التوصل إلى اتفاق مع الشركة الروسية "سويوزنفط غاز" للقيام بأعمال استكشافية وتنقيبية في البلوكات الأربعة. إضافة إلى ذلك، استلمت الشركة امتياز النتقيب في بلوك 12 وحصلت لفترة وجيزة على حصة 50 % في بلوك 26، الذي تديره شركة غولف ساندز بتروليوم. وفي 29 سبتمبر 2015، عندما بدأت روسيا حملة جوية لدعم النظام، أعلنت "غولف ساندز" الانسحاب لأسباب امنية. خلاصة القول، من المحتمل أن تحتوي مياه سوريا الاقليمية احتياطات من الغاز الطبيعي، لكن حتى اللحظة لا اثبات على ذلك، وحتى لو تواجدت تلك الاحتياطات، فإن تحويلها إلى منتجات مربحة وقابلة للتصدير عملية معقدة ومكلفة للغاية. وهذا ما واجهته اسرائيل في تطوير وتشغيل حقل ليفياثان العملاق والاستفادة من 450 مليار متر مكعب (16 مليار قدم مكعب) من الاحتياط المؤكد. لذا، مبالغ القول إن الغاز السوري سيشكل خطرًا على أسواق الغاز القطري، وأن سوريا ستكون ثالث اكبر منتج عالمي. ختاماً، من المفيد عدم تجاهل الإنتاج الأميركي الذي يرتفع ويتصاعد ويخلق فائضًا كبيرًا في الأسواق وهبوطًا في الأسعار، وكذلك الطاقة البديلة المتجددة التي أصبحت مجدية اقتصاديًا، بعد هبوط اسعار التطوير التكنولوجية. فأي توسع كبير في هذا المجال سيكون على حساب كل من الغاز الطبيعي والنفط.