ففي تقرير عن أخبار المجتمع الألماني، جاء فيه أنّ هناك 440 ألف مسنّ تعرّضوا للإيذاء الجسدي و المعاملة السيئة من أقاربهم و أفراد أسرهم مرّة واحدة على الأقلّ في العام.. و هذه عجوز فرنسية عاجزة عن الحركة تموت جوعا في شقّتها، لأنّ ابنها قطع عنها الماء و الكهرباء و الغاز، حتى اكتشف الجيران أمرها.. وهذه عجوز ألمانية أخرى، لمنزلها حديقة شديدة الروعة، وهي تعدّها ليومٍ واحدٍ في العام، حينما يأتي أولادها إليها في هذا اليوم، و من شدّة محبّتها لهم وهم معرضون عنها زيّنت لهم هذه الحديقة، و صنعت لهم طعاما فاخرا، ثمّ فوجئت أنّهم اعتذروا عن المجيء، فبكت حتّى أغمي عليها و انهارت.. و يزعمون أنّهم يدافعون عن المرأة العربية المسلمة.. ليتهم يعلمون، فيتعلّمون، و يفعلون.. * نماذج فوق السّحاب... و كم يكون التأثّر بالغا حينما تشاهد موظّفا شابّا بسيطا يقبّل يد أمّه وهي تدعو له بأحسن ما يكون الدّعاء، دعاء ينمّ عن حبّ شديد و تعلّق أشدّ.. و تعرف بعد ذلك السرّ.. فهذا الابن له ثلاث شقيقات و شقيق، كلّهم ابتلاهم الله تعالى بفقد البصر، بعد أن كانوا مبصرين في مقتبل العمر، و كانت رحلة الأمّ شاقّة في المستشفيات و عيادات الأطباء بحثا عن العلاج لفلذات أكبادها، فتكاثرت عليها الأمراض، من ارتفاع في ضغط الدمّ و السكري، و كان هذا الابن هو السّند الوحيد بعد الله لأمّه يدعمها بكلّ ما يملك من صحّة و مال، و ساعد شقيقه حتى أكرمه الله و أصبح أستاذا في الجامعة.. نستخلص من هذا أنّ الأم المسلمة في مجتمعاتنا العربية و الإسلامية، مدرسة للعطاء و التضحية، فقطاع كبير من نسائنا يستحقّ التكريم، ففي كلّ عائلة أكثر من نموذج نسائي يحتذي به، و كثيرات كنّ العمود الفقري لأسرهنّ و بيوتهنّ.. أعداد كبيرة ممّن أعرف من النساء التونسيات المسلمات، وقفن إلى جوار أزواجهنّ في أقسى الظروف، و تحملن عبء تربية الأبناء، و منهنّ من عملن أكثر من عمل ليدبرن نفقات المعيشة، و كثيرات منهنّ غاب أزواجهنّ ربع قرن في السجون، فتحمّلن ما لا يستطيع أحد أن يتحمله حتى خرج الزوج ليجد أبناءه و بيته على أفضل ما يكون، و قد ربّاهم الله على عينه، بل منهنّ من بنَيْنَ البيوت، ليخرج الزوج ليجد بيتا لم يبْنه هو، و إنّما بنته زوجته.. هذا كلّه واقع معاش و محسوس ليس في تونس فقط، و إنّما في كل البلاد العربية الإسلامية، التي تعلّمت على يد أشرف الخلق محمّد صلى الله عليه و سلم، و يبق السؤال: هل نحن بحاجة إلى الاحتفال بما يسمّى عيد الأمّ، إذا التزمنا ذلك المنهج ؟!! أيها الناس، لا شكّ أنّ للأمّ مكانة كبيرة في قلوبنا جميعا، و لها أيضا مكانة عظيمة في الإسلام، رفيعة لا يرتقي إلى مستواها من بعدها سوى مكانة الأب، فقد حضّ القرآن الكريم و كذا السنّة الشريفة على إكرام الأمّ أضعاف إكرام الأب، كما في قوله تبارك و تعالى: " و وصينا الإنسان بوالديه حملته أمّه وهنا على وهنٍ و فصالُهُ في عامَيْنِ ".( لقمان الآية: 14 ) و كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جوابا عن سؤال رجلٍ: " من أحقّ الناس بصحبتي يا رسول الله ؟ قال: " أُمُّكَ ". قال: ثمّ من ؟ قال: " أُمُّكَ ". قال: ثمّ من ؟ قال: " أُمُّكَ ". قال: ثمّ من ؟ قال: " أبُوكَ ". و لأنّ الأم تعدّ نواة البيت فهي من يحمل و يربّي و يسهر الليالي، و هذا ربّما زاد من قيمتها و تمجيدها من قبل أبنائها، و إعطائها حقّها و هذا يتمثّل في المعاملة التي أوصى بها ديننا الحنيف.. و في وقتنا هذا أستغرب من مواقف كثيرة تحصل في البيوت التي يتعامل فيها الابن و الابنة المعاملة السيّئة تجاه أمّه، و أقلّها ذلك الطفل الذي ينهر أمّه أو يعلو صوته أمامها، و هناك الكثير من القصص و المآسي التي تحمل في طيّاتها عقوق الأم و نكران جميلها، خاصة عندما يكبر الأبناء و يهتمّون بحياتهم الجديدة، و بتأسيس أسرة، يبتعد عن أمّه و يهملها متعذّرا بظروف الحياة و العمل و تربية الأبناء، فينسى الحضن الذي ضمّه و سهر على راحته و رعاه حتى بلغ أشدّه و أصبح ذا شأن في المجتمع.. فلا ضير إن قلنا أنّ للأم عيدا ليس ليومٍ واحدٍ، و إنّما طول أيام السنة، فالآن مهما قدّم لها أبناؤها من معروفٍ فلا يضاهي معاناتها و تعبها منذ حملها و سهرها الليالي في راحتهم و في مرضهم و رعايتهم و الاهتمام بتربيتهم منذ الطفولة حتى صاروا شبابا قادرين على تحمّل المسؤولية.. فلكلّ أمّ كلمة حقّ و تقدير و بطاقة دعوة للاحتفال بها كلّ يوم، و كلّ ليلة طوال السنّة كلّها.. و لن نتمكن من إيفائها حقّها و لو بصيحة من صيحات الوضع.. لم يعد لنا مزيد و غدا هناك جديد