المراسل-عندما انهار الإتحاد السوفياتي في بداية التسعينات أعلن رويبضات التاريخ عن نهاية التاريخ بنهاية الحرب الباردة، و نهاية عقود من التجاذب الإيديولوجي الماركسي الرأسمالي و الذي قسم العالم إلى معسكرين شرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي و غربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية. و نهاية التاريخ حسب هؤلاء توجت بإنتصار الفكر الرأسمالي على الفكر اليساري بمختلف توجهاته. و ما يحدث فوق كوكبنا هذه الأيام، يدل على أن من تكلموا عن نهاية التاريخ تكلموا كلاما تافها في أمر العامة، فقارة أمريكا اللاتينية، و بعد سنوات من التدخل الأمريكي في شؤونها من أجل إحتواء المد الشيوعي، إستسلمت لعقود من الحكم العسكري بمباركة أمريكية، لكن شعوبها لم تنتظر كثيرا لتقول كلمتها من جديد و تجدد ثقتها في قادة يساريين أتت بهم الديمقراطية إلى ڤينيزويلا في سنة 1998، بإنتخاب هوغو تشافيز الذي نسأل له الله الشفاء و إلى البرازيل سنة 2002 بإنتخاب لولا داسيلڤا المناضل النقابي، و إلى الأرجنتين سنة 2003 بإنتخاب نيستور كيشنر، و لا يمكننا أن ننسى إيفو مرالس الرئيس البوليفي الحالي المعروف بمواقفه المعادية للغرب الإمبريالي و الذو وصل إلى الحكم سنة 2005. و القائمة اللاتينية بإختلاف مواقف زعمائها تطول لتشمل دولا كنيغاراغوا و الأوروغواي، و البيرو و غيرهما. هذه الفترة ذاتها شهدت عودة اليسار إلى أروبا، و لو بروح جديدة، بعيدة عن الراديكالية، مما دفع بالبعض إلى إتهام يساريي أروبا بالتنكر لمبادئ الفكر اليساري، لكن و بغض النظر عن منطقية هذه الإتهامات من عدمها، فإن اختيار الأروبيين لليساريين في العديد من المرات يدل على أن هذا الفكر لم يمت، و إنما تراجع لفترة من الزمن، فاختيار الإسبان لليساريين في 1982 و 2004 يبرهن على أن ديكتاتورية فرانكو لم تقتل هذا الفكر و لم تمحوه من ذاكرة الإسبان و إنما قمعته لوهلة من التاريخ، و الكلام ذاته ينطبق على فرنسا، و ها أن شعبها بإنتخابه لأولاند يؤكد على رغبة من شعب فرنسا في إحياء التجربة الإشتراكية، و تجديد العهد معها و لو في ثوب جديد، جعل الرئيس الفينيزويلي تشافيز يسخر من تسمية قادة فرنسا الجدد لأنفسهم بالإشتراكيين. بعد ما يسمى "بالربيع العربي" شهدت العديد من المدن الغربية احتجاجات عمالية مناهضة للفكر الرأسمالي، مطالبة بإصلاحه، وها أن الرأسمالية تسائل في عقر دارها الولاياتالمتحدةالأمريكية، فحركة "إحتلوا وولستريت" هي جزء من هذا التحرك العالمي المنادي بمراجعة الإقتصاد الرأسمالي، و الذي شمل دولا كفرنسا، و إسبانيا، و إيطاليا، و التشيلي، و الأرجنتين، و سلوفينيا، و اليونان، و رومانيا. و لعله من البديهي القول أن الأزمة الإقتصادية الأوروبية و التي امتدت تأثيراتها إلى بقية دول البسيطة، أو المعمورة، ذات الشكل الكروي ساهمت في إحياء هذه المطالب. و عليه، فإن الأفكار لا تموت، و التاريخ لا ينتهي، و لا يتوقف، فسحر بعض الأفكار قد يتراجع، لكنه لا يموت، و التاريخ ليس موضوعيا، بل هو ذاتي، قد يخضع إلى أهواء الشعوب و السيول البشرية كما يخضع إلى أهواء بعض المؤرخين، ومن بينهم فرنسيس فوكوياما الذي تحدث عن نهاية التاريخ بنهاية الشيوعية سنة 1992. لا يمكن لعاقل أن يقول أن للإدارة الأمريكية الحالية توجهات يسارية، لكن بالمقارنة مع إدارات سابقة، فإن الإدارة الأمريكية الحالية و العديد من الحكومات الغربية، و في سياساتها الإقتصادية، تنحو يسارا، لكن دون مرجعيات إيديولوجية، و إنما هي خيارات تمليها مقتضيات المرحلة، فأوباما ، الرئيس الأمريكي الحالي، و في خياراته الإقتصادية، يحبذ رفع الضرائب على الإستثمارات، و كذلك على الأغنياء و أصحاب الدخل المرتفع، من أجل الرفع من حجم الإنفاق الحكومي، و إجراء إصلاحات تشمل قطاعات الصحة، و التعليم، و التشغيل، و الرفع من مستوى عيش الفقراء. يحضى أوباما بدعم كبير من اللاتينين و السود، و الشرق أوسطيين، و الذين يرون فيه المنقذ، و الداعم لهم و لحقوقهم كأمريكيين طالما عانوا من التمييز، فأوباما يخطط من خلال قانون يحاول تمريره (دريم آكت) إلى إحتواء أكبر عدد ممكن من الشباب من أصول لاتينية و تمتيعهم بالمواطنة شرط استكمال دراستهم في الجامعات الأمريكية أو الخدمة في الجيش، مع الإقامة في أمريكا منذ ما يزيد عن الخمس سنوات. و لعله من السذاجة أن نحذو حذو المتطرفين من جمهوريي أمريكا و نقول أن أوباما يساري، لكن من المنطقي القول أن هذه الخيارات هي وليدة مايراه الرئيس الأمريكي مصلحة أمريكية، و التي لم و لن تغير من الخيارات الإقتصادية الكبرى للولايات المتحدةالأمريكية، لكنها تميل بأمريكا ببعض المليمترات يسارا، دون الإستناد إلى مرجعيات إيديولوجية. قرر وزراء المال في الاتحاد الأوروبي، عشية مؤتمر القمة الأوروبية، وضع البنوك الأوروبية البالغ عددها نحو 200 بنك، تحت إشراف البنك المركزي الأوروبي الذي سيصبح المراقب الرئيسي لعمل البنوك في منطقة اليورو، إذ يرجع خبراء الإقتصاد الأزمة في منطقة اليورو إلى فشل البنوك الأوروبية في تفادي الإنهيار المالي. هذا القرار و حسب محللين إقتصاديين، ينحو بالإقتصاد الأروبي قليلا نحو اليسار، لكنه يسار "لا إيديولوجي" و الرئيس الأمريكي أوباما أتى بقرارات مشابهة، حين دعى إلى دور أكبر للدولة في العملية الإقتصادية. هكذا، ينحو العالم اليوم يسارا، بمرجعيات لدى البعض و بدونها لدى البعض الآخر، و من باب الأمانة، يجب الإقرار أنه قد ينحو يمينا يوما آخر، لكن ما يمكن التسليم به هو أن بريق المرجعيات سوف يتراجع حينها و سيستمر التاريخ..