ماذا يحدث في هذا الجزء البعيد من العالم؟ أهو بعث جديد للثوري العالمي تشي جيفارا أو للمناضل سيمون بوليفار، أم هو انقلاب أبيض على سياسة أمريكية جائرة، أم هي ملحمات شعبية من أناس يريدون الحركة وفق آرائهم، أم هي نخب مستنيرة جديدة تعمل لصالح شعوبها، أم الأمر خليط من كل هذا وغيره؟. إنها القارة الأمريكية اللاتينية التي تثبت أنه لا نهاية للتاريخ كما قال بعض المنظرين الأمريكيين. إنها قارة الحيوية السياسية النخبوية والشعبية، التي تشهد أكبر مظاهرات مناهضة لما ألحقته العولمة من سلبيات اقتصادية واجتماعية، وتعمل نخبها اليسارية الجديدة على الحد من التأثير الأمريكي في سياساتها الداخلية التي طالما اتبعت نهجا انتهازيا طوال العقود الماضية، وأثرت سلبا على مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي بدول القارة. والآن يبدو الظهر الأمريكي محاطًا بمجموعة من دول يسارية تسعى لاتباع نوع من التشدد السياسي مع الولاياتالمتحدة ووقف مشروعاتها للتجارة الحرة بين القارة والولاياتالمتحدة. إن أوجه الشبه بين تلك المنطقة وبين الشرق الأوسط ربما لا تكون كبيرة، لكن ما يحدث بأمريكا اللاتينية من وصول لليسار، وما تشهده دول الشرق الأوسط من صعود للتيارات الإسلامية المعتدلة، إنما يعد رسالة واضحة إلى الولاياتالمتحدة، وهي أن السياسات الجائرة تفضي دائما إلى نتائج عكسية، وأن الشعوب إذ تسأم التدخل الخارجي فإنها تلجأ إلى خيارات أخرى. وهذه القيادات ترفع شعارات يسارية واضحة عن العدالة الاجتماعية والديمقراطية الشعبية باستخدام أساليب مختلفة هي أقرب إلى أساليب الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية مع قدر كبير من البرجماتية السياسية في محاولة لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التعامل الإيجابي مع حقائق المجتمع الدولي الراهن، وهذه القيادات تبدي حرصها على المسار الديمقراطي، وتطرح برنامجا بديلا عن سياسة المواءمة التي تفرضها المؤسسات المالية والاقتصادية والتجارية الدولية. فهل يمكن لليسار اللاتيني أن يحافظ على المسيرة الديمقراطية وهو الذي وصل على ضوء عملية انتخابية، وهل يمكنه أن يضيق الفجوة بين الغالبية الفقيرة والمعدمة وبين الشرائح الغنية، وهل يمكنه مواكبة عملية العولمة بما لا يخرج هذه الدول عن سياق الإطار الدولي، وأخيرا هل يصطدم مع الجار الأمريكي أم هي لعبة التشدد السياسي التي لا يتقنها ولا يعرفها عديد من قادة دول الشرق الأوسط؟. إن كان الحديث يطول عن أمريكا اللاتينية، ويحتاج مزيدًا من البحث والتنقيب لاستكشاف هذه المنطقة الغريبة نوعا عن واقعنا العربي، فلا ينفي ذلك أن يقدم هذا الملف بعض الصور عن ذلك التحول الذي تشهده القارة اللاتينية. هناك في المكسيك سعي للحفاظ على تجربة ديمقراطية فريدة بدأت مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وفي فنزويلا نموذج يقف ضد الاستغلال الأمريكي، وفي بوليفيا تجربة ناجحة لوقوف الشعب ضد عمليات للخصخصة حتى وصل اليسار للحكم واتخذ موراليس ما لا يمكن تخيله، ففي 2 مايو 2006 أعلن عن تأميم النفط والغاز البوليفي في استكمال لخطوة اتخذتها فنزويلا بإعادة النظر في الاتفاقات التي وقعت سابقا مع شركات النفط العالمية، الأمريكية منها أو الأوروبية، أو حتى من دول أمريكا اللاتينية الأخرى. وتقدم أمريكا اللاتينية من جانب آخر نموذج في حصول المرأة على حقوقها السياسية، وهي قضية محل خلاف بين محللين سياسيين بالقارة. لعل التجربة الأمريكية اللاتينية ورغم حداثتها قد تقدم ليس نموذجا للاسترشاد لدول أخرى، لكنها تقدم تجربة تثبت أن للشعوب دورا إذا ما أرادت، وإذا ما خرج منها نخبة تعد من وجهة نظر شعبها مستنيرة لتصنع مستقبل هذه الدول. تجربة أمريكا اللاتينية هي في الحاصل الأخير بمثابة انقلاب أبيض على عهود طويلة من الاستبداد الداخلي والتدخل الخارجي من الولاياتالمتحدة أو من المؤسسات ذات الطابع العولمي.