لقد حسم النص الديني قضية اللغة والألسن في قوله عز وجل "إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ". وهذا ما يجعل من اللغة سلاحا اجتماعيا تلتقي فيه الإرادات الإنسانية وتنصهر في رغبة موحدّة أي في تشكيل مجتمع إنساني رافض لمنطق التمايز والتقاطع ومنتصرا لحاجة الإنسان للتثاقف والحوار بين مختلف الحضارات. ورغم أن تاريخ اللغات يكشف أن العديد منها يصنف ضمن ما هو ميت مثل الآرامية والأشورية والإغريقية القديمة فهناك لغات حية رغم عراقتها وقدمها لأنها تتضمن على أسرار استمراريتها. وتعد اللغة العربية خير مثال على ذلك حيث لا تزال حية وتعبر عن قدرتها الفائقة على التفاعل مع الحياة كلما استمر أهلها في التفاعل معها. ذلك ما يجعل وبمنطق حتمي علمي كل محاولة لإعاقة سر الحياة فيها، حكمٌ من قبل ذويها على أن يحكموا على أنفسهم برفض قوانين وجودهم، في عصر لا وجود فيه سوى للأقوياء الذين لا يبحثون عن مقومات الوجود في المتخارج عنهم ولو كان من ذوي قوة وسلطة. فأول من تكلم العربية بعد أن كان يتكلم العبرانية (واسمه اشمويل) هو سيدنا إسماعيل عليه الصلاة والسلام الذي وان كان ذو صلة بالعرب البائدة لكنه قد ينتسب بالأساس للعرب العاربة الذين احتلوا البادية العربية وتخلقوا بأخلاقها وتمسكوا بلسانها. منذ ذلك الحين لا تزال اللغة العربية حية في منطوقنا ووجداننا وتمتلك قدرة على الصمود والتمسك بالانتساب لحضارة الكلمة والصورة التي تتسيد عليها لغات أخرى رغم حداثتها تدعي أنها رمزية التحضر اليوم. اللغة العربية تخشى ضراتها الأشياء متناقضات تلك هي حكمة التاريخ الذي لا يتحرك أو يتطور بدون وعي بقيمة التناقض كقانون فعل ورد فعل وتطور وليست اللغة كحدث طبيعي ونفسي واجتماعي بمعزل عن ذلك. لكن ليست القضية في حضور النقيض المحرك لقانون الفعل بل في المختلف العائق المتربص المريض المشوه لكل ما هو جميل. ماذا تخشى اللغة العربية مثلا؟ تخشى حتما ضرّتها وخاصة ما يسمى بالعاميات الأكثر تمزيقا للهوية العربية الإسلامية ونسيجها العام. كثيرا ما نخشى تأثيرات الأزياء المستوردة أبخس أو أغلى الأثمان والتي تجد لها حاضرة في كل زاوية من أسواقنا، أزياء المستر "جورج" والموسيو "دافيد" التي جعلتنا نمشي ايطاليا من الأسفل ونترنح انجليزيا من الوسط وندندن باريسيا من الأعلى بتلك القبعات الباريسية التي لا يحقق الكثير من مثقفينا النوعية بدونها وإذا فارقتهم خشوا على أنفسهم من نظرات الآخر وحكمه قبل حكم الذات. لكن العاميات أكثر خطرا وضررا على لغتنا الأم وعلى هويتنا، عاميات أصبحت تغزو كل الفضاءات من البيت إلى الشارع إلى الأسواق ووصولا إلى حد المؤسسات الرسمية. لقد أصبح عاديا بل مطلوبا أن نتكلم لغة مزدوجة نجمع فيها بين العربي والعامي والفرانكفوني، فالتحية من الأفضل أن تكون فرنسية وسلام الوداع من الأنسب أن يكون انجليزيا والتعبير عن الموافقة من الأجدى أن يلفظ مسرحيا أيضا على طريقة ذاك الأجنبي الذي تحلو صورته دائما في مخيلتنا. هل هذا كل المشكل؟ حتما لا ونصر على ذلك إلحاحا ... كيف؟ ولماذا؟ رفض اللغة العربية ضرورة أم خيارا وطنيا وشعبيا؟ هنا بالذات يجب أن نضع الإصبع على أصل الداء بالعمل على حسم مشكلية: هل نحن قوما تبّعا أم نملك قدرنا واقتداراتنا؟ يقول الدكتور الشعراوي: "لن تكون كلمتنا من رأسنا إلا إذا كانت لقمتنا من فأسنا" ذلك هو واقعنا فنحن لا نأكل من جهدنا وبالتالي لن يكون قرارنا ومنطوقنا من عقولنا أو أفواهنا وهو ما سينسحب ضرورة على واقع لغتنا العربية التي للأسف تستجدي اليوم حضورا ولو بالغياب في مجمل نشاطنا وحراكنا. نعم هي موضع استهداف مؤسساتي منظم من قبل من لا يملك قدرة على التناغم مع تلك الأفعى الصفراء الجاثمة في صدورنا والتي تقول "لا" دائما كلما أردنا أن نقول "نعم"، على حد تعبير المفكر الفرنسي "بودلير" ودليلنا على ما قد يعتبر البعض هراء التالي: · واقع اللغة العربية في المؤسسة الإعلامية السمعية أو البصرية أو المكتوبة: فهي مجرد ديكور سيّء التأثيث يشوه كل ما هو جميل من خلال عناوين لبرامج ثقافية "زوم على الثقافة" أو رياضية "الجمعة Sport". · حالة الرثاء والغربة التي تعيشها اللغة العربية داخل بعض الفضاءات التجارية التي تخال نفسك وأنت تردادها انك في إحدى الأقاليم الفرنسية حيث اسم المنتوج فرنسيا والعلامات الإشهارية كذلك. وذلك ليس غائبا حتى في الأغاني التي ترددها الجماهير الرياضية كل يوم احد وكأن التشجيع واللافتات التي نراها في بعض الملاعب في بقية الدول العربية خاصة المشرقية، غير حضارية لأن منطوقها وصورها التجسيدية غير ايطالية وفرنسية وحتى أمريكية لاتينية المنشأ والمصدر. · قد نتساءل عن سبب تجاهل وقبر بعض الأسماء العلامات في شوارعنا الرئيسية حيث تصدمنا بعض الأسماء الأجنبية في أهم شوارعنا بينما نجد الزوايا والأنهج المحدودة مؤثثة بأسماء أهم أعلامنا: فهل يعقل أن ننعت الأنهج المشبوهة أخلاقيا باسم الشريف الإدريسي عالم الجغرافيا والخرائط أو العلامة ابن خلدون أو أحد رواد حركة الإصلاح الوطني والعربي. · كل ذلك قد يهون إزاء ما تعيشه المؤسسة التعليمية والتربوية التي تصرّ على زرع لعنة المستورد لغة وفكرا وقيما. مؤسسة ترفض التسليم بأنه إذا صلح التعليم صلح ما بعده وإذا فسد فسدت أمة بحالها. مؤسسة ترفض مطلب التعريب وتضخم صورة المربي الحامل لشهادة أجنبية وخاصة من أصحاب اللغات الأجنبية في مقابل تقزيم ذوي اللغة الأم وذلك بتهميش مادة العربية ضاربا وعددا للساعات المسندة لها. أما بالنسبة للنصوص المعتمدة في كافة المواد فهي حتما لأسماء أجنبية لسنا ضدها ولكن من حقنا أن نتساءل عن سر التضخيم لصورة المستورد ولو كان مشبوها ورفض أعْلاَمُنَا بدعاوي باطلة ولنا في ذلك مثال النص الفرنسي لأحد المتصهينين الذي ورد في إحدى الدورات الرئيسية للباكالوريا. بناء على ما سبق قد ننتهي إلى النتيجة التي مفادها انه هناك غياب للإرادة الوطنية وانه من الخيارات الإستراتيجية التي تدافع عنها بعض النماذج الحاقدة على هذه الأمة، تقزيم كل ما له صلة بهويتنا مع محاولة دفع الجميع للانخراط في مشروع اكبر من الجميع يتعارض مع امة تريد وتحن لقراءة تاريخها ولمن يساعدها على تجاوز أسباب النكبة الحضارية التي تعيشها. نعم هناك نماذج متهالكة على الآخر ومنخرطة في لعبة تجذير اغتراب هذه الأمة عن ماضيها وتراثها وحقها في النهضة. نخبة تدعي وهي محتلة في اغلبها مصدر القرار أنها حاملة للواء النهضة الحضارية لكن للأسف لا يكون ذلك في نظرها سوى من بوابة التبعية الذيلية والذليلة التي تختزل الشرق كما يقول المفكر المعلم "ادوارد سعيد"، في صورة تكرس رغبة الغرب في السيطرة عليه خاصة من بوابة اللغة. علينا أن نذكرهم للساخرين باللغة العربية، نقول إنها من اللغات الحية التي لا تموت ولن تموت وسر حيويتها في كونها بطبعها كائنا حيا يتفاعل مع الحياة طالما ما زال أهلها يتفاعلون معها ونحن أهلها ولن نكل عن التفاعل معها وان كان ليس داخل المؤسسات فمع صغارنا اللذين نخاطبهم ونعلمهم بلغة لا نخجل منها. كذلك سر الاستمرار في صلة اللغة العربية بالقران الكريم الذي بدوامه تدوم رغم نشاز ضراتها. كما نذكر المنبهرين بلغة المستعمر رغم إنها لغة علوم اليوم، إن الكثير من أصول هذه اللغة وخاصة الانجليزية، عربية قحة وأدلتنا كثيرة:جيد = Good، عتيق= Antic، أرض= Earth، ... وذلك استنادا إلى منطق التلاقح بين اللغات. كما نذكر بعض الأغبياء أن العالم اليوم بما فيه الغرب يتجه إلى تعلم اللغة الصينية واليابانية بعد الطفرة العلمية والتكنولوجية التي تعرفها دول شرق آسيا حيث الوفود الدراسية تتجه شرقا لا غربا. كما أن اللغة العربية لم تكن قاصرا تاريخيا عن الإبداع المعرفي والعلمي فقد أبدع بها الخوارزمي رياضيا وابن رشد فلسفيا وابن سينا طبيا، إضافة إلى أن الكثير من العلوم تدرس في بعض الجامعات العربية باللغة العربية: فهل يعقل أن تكون الفارسية لغة علم لدى الفرس الذين أصبحوا رقما صعبا اليوم؟ وهل يعقل أن يسيطر اليهود على منطقة الشرق الأوسط مراهنين في ذلك على لغتهم الميتة، بينما نرفض اللغة العربية التي لم تخنّا بقدر خيانتنا لها؟ نقول أخيرا إن اللغة العربية ليست ثوبا يلبسه من يريد ويخلعه من يريد فهي تعبير عن ثقافة امة ورمزا لهويتها والسدّ المنيع أمام هجمة العولمة التي تريد أن تفرض مع الدولار لغته. الدولار الذي أصبح رقما تزداد صغارته وقزامته. وتتطاوس عليه بعض الشعوب الصغيرة في العدد الكبيرة في الهمة (فنزويلا) وللأسف تتلذذ بصورته ورنته شعوبا تتقن جلد ذاتها (رغم عراقتها وخشية الأقوياء لها) على قزامتها الحضارية اليوم. نختم بالقول مع الإمام الغزالي: "من لا أساس له منهار ومن لا حارس له ضائع" فاللغة حصننا وقلعتنا الحامية.