لم يحدث من قبل أن شاع استخدام مفهوم الإعلام الأصفر المقروء والمشاهد كما هو شائع الآن في المنطقة العربية نراه ونتلمسه يوميا من خلال ردة فعل القارئ في تعامله مع الصحافة والقنوات التلفزية الوطنية والعربية عموما. فهو في حالة تشبه القطيعة للبعض وفي حالة هجرة للبعض الآخر. وفي ذلك موقف يعبر عن القدح والاستنكار لنوع الكتابات الصحفية والبرامج التلفزية التي تخاطب الغرائز. وتتوسع في نشر الفضائح ولا تعتمد الدقة والأمانة في ما تنشره أو تبثه من أحداث وأخبار وقصص ولا تضع حدودا على ما يمثل اجتراء على الأخلاق والآداب، وما يمكن أن ينطوي عليه ذلك من تشهير لا يخفي رائحة الابتزاز. وإن انتشار مثل هذه الصحافة ومثل هذه الكتابات ومثل هذه البرامج أدى إلى وقوع ما نراه في حياتنا الفكرية والثقافية من التباس في المعايير لم يعد القارئ يقدر على التمييز بين الغث والسمين في كل الأحوال كما أدى إلى غياب القدرة على التفكير النقدي لدى أفراد المجتمع. كما أن غياب القدرة هذه ولدت البحث دائما عما يسميه البعض "الخطوط الحمراء". وهي خطوط وهمية هلامية يفرضها مناخ الخوف وتستغلها السلطات بحسب الحاجة للدفاع عن نفسها وعن المستفيدين بها. وإن التمترس خلف هذه "الخطوط الحمراء" هو أسهل الطرق التي تسلكها البيروقراطية لالتماس الأمان والترقي في سلم النفاق كما تسلكها الأقلام والأفواه بحثا عن السلامة. وفي مرحلة التصدع الفكري والثقافي التي نعانيها حاليا ذهب البعض إلى القول بأن غياب الإعلام الموضوعي والجاد وغياب الثقافات الرصينة مرجعه إلى أن الدولة في عديد المجتمعات ومنها العربية رفعت يدها أو انسحبت تدريجيا من إدارة المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وأنه في ظل التعددية السياسية والديمقراطية المظهرية لم تعد الدولة تمارس سلطانها على العقول والأذواق والسلوكيات. وهي كذبة كبيرة لأن غياب ثقة المجتمعات ومنها العربية في مؤسساتها وعلى رأسها المؤسسة الإعلامية هو الذي فتح الطريق أمام هذا النوع من الإعلام السائد لملء الفراغ الإعلامي بكل ما هو رخيص وتافه من حديث الفضائح والخرافة ونفاق العواطف. وهذا الوضع أنشئ نوعا من الخطاب والتفكير المزدوجين مما يسمح للفرد بأن يؤمن من ناحية بالتقدم العلمي ولكنه يشجع من ناحية أخرى على الهروب منه وتجنب التفكير في تحمل تبعاته. فالمجتمع يرحب بالسلع الغربية والإنتاج الغربي من علوم وتكنولوجيا وفنون وثقافة ولكنه لا يقبل النتيجة المنطقية لذلك. وهي أن هذا التقدم ما كان ليتحقق بدون ذات حرة فاعلة مستقلة، مالكة لحياتها وقدراتها العقلية والجسمية.. وفي مثل هذه الأجواء التي تتحدد فيها مهمة الإعلام إما بإضفاء المشروعية والتقديس أو أداة للترفيه والترويح عن النفس أو... ينمو هذا النوع من الإعلام نموا عشوائيا غير محكوم وغير خاضع لأية معايير فيتحول بإرادة واعية أو بدونها إلى أداة لإشاعة التعصب والعصبية والعنصرية ونزاعات الكراهية ومخاطبة الغرائز ونشر الفضائح والعبث بالعقول..، مستخدما في ذلك أحدث التقنيات الإعلامية واللغة أو اللهجات السهلة الرخيصة والاستسهال الشديد في تناول الموضوعات الجارية بأساليب ساذجة ومسطحة. وهكذا تكتمل الدائرة: فراغ إعلامي ناتج عن سيطرة ثقافة الخوف وارتعاش العقول والأقلام والألسن نتيجة علاقة مريضة معتلة بين السلطات الحاكمة والإعلام يؤدي إلى ما نشاهده على طول ساحة الوطن العربي.. هكذا ومن كل هذا الضياع في الزحمة لكل الحدود الفاصلة بين الإبداع الحقيقي والإباحية وبين الابتكار والتجديد وبين التبذل والإثارة. يقفز مثل هذا الإعلام السائد إلى ملء هذا الهزال والفراغ الفكري بكل ما يريد. فتحية إلى كل الأقلام والألسن التي لم تختر الطريق الأمن الذي هو الصمت بل اختارت القلم المشع واللسان العربي الحكيم.