عندما يقرر القانون الدولي محاكمة دكتاتور ما في بلدان العالم الثالث، ارتكب جرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم القتل والإبادة والتعذيب بطريقة منظمة، وعلى نطاق واسع، وهي جرائم دولية تنتهك أسمى القواعد القانونية في القانون الدولي، فإنه لا يفعل ذلك من أجل تلبية مصالح اقتصادية، أو مالية، أو دبلوماسية، أو سياسية، بل باسم القيم المشتركة للإنسانية، حيث أن للعالم بأسره المصلحة قانونا بمكافحة هذا النوع من الجرائم وملاحقة مرتكبيها. هذا من ناحية مبدئية، إذ لا يوجد أي إنسان خارج سلطة القانون، حتى لو كان حاكما. وقد أثارت مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير، بتهم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في إقليم دارفور، والتي أصدرها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مارينو أوكامبو جدلا واسعا حول هذه المحكمة. فمن جهة، هناك الرئيس السوداني نفسه و أنصاره من الحكومة والحزب الحاكم وحتى قسم كبير من الرأي العام العربي والإسلامي يعتبرون أن اتهامات أوكامبو تفتقد إلى السند القانوني، إذ وصفها نائب الرئيس علي عثمان طه في مؤتمر صحافي بأنها «تعد استكمالا لهجوم متمردي» «حركة العدل والمساواة»على أم درمان في مايو الماضي، من أجل إطاحة حكم البشير، و تشجيع المتمردين في دارفور على مواصلة الحرب وإضعاف السلطة وإسقاطها» . وجهة النظر هذه تعتبر أن المحكمة الجنائية الدولية منحازة وغير شرعية، بل إن الغرض من إنشائها هو تبرير تدخل القوى العظمى في الشؤون الداخلية للدول في العالم الثالث، وممارسة الضغط عليها فيما يتعلق بمدى احترامها لحقوق الإنسان، والتستر على هذه القوى في الانفجارات الدموية التي تسببت في حصولها في العديد من المناطق في العالم. صراع قبلي وتنافس دولي أما وجهة النظر الغربية، وفي المناطق التي عانت مباشرة من ويلات الحرب الدائرة في إقليم دارفور، التي قفزت إلى مسرح الأحداث على الصعيد الدولي، بسبب اكتشاف النفط في الإقليم، والصراع التنافسي الذي تخوضه القوى العظمى في منطقة القرن الأفريقي، فقد رحب المسؤولون السياسيون الذين يقودون حركات التمرد المناوئة للحكومة السودانية والمدعومة غربيا وإسرائيليا، إضافة إلى قيادات الدول الغربية العظمى وأجهزة الإعلام التي جددت في هذه المناسبة تأييدها للمحكمة الجنائية الدولية، باعتبارها أداة مميزة لتحقيق العدالة والمصالحة. لقد تحولت الحرب المستمرة منذ خمسة أعوام في إقليم دارفور بغرب السودان بين ميليشيات (الجنجاويد) التي تدعمها حكومة الخرطوم والحركات المتمردة التي رفضت اتفاق السلام الموقع في أبوجا، في أيار (مايو) 2006، إلى صراع دام مفتوح بين أطراف عديدة يهدد بتقويض أكبر جهود إغاثة إنسانية في العالم. فالميليشيات ومتمردون وجماعات منشقة على جماعات التمرد وقطاع طرق ونحو مايزيد على 70 قبيلة يتقاتلون على كل شيء؛ من السلطة إلى قطعان الماشية.. يدمرون القرى ويشردون مزيدا من الناس ويغتصبون موظفي الإغاثة ويخيفونهم لإبعادهم. ويقدر الخبراءالغربيون أن نحو 200 ألف شخص قتلوا وأن 2.5 مليون شخص نزحوا عن منازلهم منذ اندلاع الصراع في عام 2003 حين حمل متمردون السلاح ضد الخرطوم متهمين الحكومة بإهمال المنطقة، وتحوّلوا إلى لاجئين إن في داخل دارفور أو في تشاد المجاورة، إضافة إلى انتهاكات منظمة لحقوق الإنسان في معسكرات اللاجئين بدارفور تتحمل مسؤوليتها الميليشيات المدعومة حكومياً. إن أزمة السودان، مركبة في آن معا: في الشق الأول منها ،أزمة ديمقراطية، وفي الشق الثاني منها، أزمة هوية حادة. ومعالجة هذه الأزمة لوضع حلول جذرية ونهائية لتلك المشاكل التي أسلفنا الحديث عنها، يحتاج إلى بلورة مشروع مجتمعي جديد يركز على بناء دولة المواطنين التي يحتفظ كل سوداني فيها بجميع حقوقه، بغض النظر عن انتمائه الديني أو القبلي. فالنزاعات في دارفور، أو في الجنوب، إذا استمرت، ستقود حتما إلى تقسيم السودان. وليس أمام القوى السياسية السودانية وحركات التمرد بدارفور والحزب الحاكم سوى تبني الديمقراطية، أهدافا وممارسات، لإعادة الثقة داخل النسيج الاجتماعي، وبناء المواطنة على أساس التعددية، لاعلى أساس الانتماء القبلي الضيق. ليس من شك أن قرار المدعي العام أوكامبو بتوجيه مذكرة التوقيف ضد الرئيس عمر حسن البشير، لم توجه له بوصفه دكتاتورا، و إنما بوصفه مرتكبا لجرائم ضد الإنسانية. فالمحكمة الجنائية الدولية لا تعترف بالحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها حكام الدول، وهي الحصانة المبنية على القانون المعروف بقانون حصانة الدولة لعام1987. لا حصانة مطلقة غير أن هذه الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول و الدبلوماسيون ليست حصانة مطلقة، ولا تشمل فئة خاصة من الجرائم هي على جانب من الأهمية، مثل جرائم ضد الإنسانية أو الجرائم الجماعية، التي لا حصانة لها، لأنها من الجرائم التي لها وضعها الخاص في القانون الدولي. و هناك قواعد في القانون الدولي لا يجوز التنصل منها، و تشمل هذه القواعد السامية منع الجرائم ضد الإنسانية. و للدول كافة الصلاحية في محاكمة المتهمين بمثل هذه الجرائم عملا بمبدأ الصلاحية الشاملة. إن الحاكم الذي يرتكب جرائم جماعية، أو جرائم ضد الإنسانية، ينتهك بذلك قواعد القانون الدولي، و بالتالي يخل بمسؤوليته إخلالا كبيرا حيال العالم بأسره، فإنه يصبح من حق العالم بأسره محاكمته. من هنا، فإن قواعد القانون الدولي هي التي تسود، وهي التي تعلو على المعاهدات الدولية مثل تلك المتعلقة بالحصانة الدبلوماسية. ازدهار ثقافة حقوق الإنسان إن القانون الدولي، ومنذ نهاية الحرب الباردة و سقوط الاتحاد السوفييتي، وفي ظل النسق المتسارع للعولمة الليبرالية الجديدة أو الليبرالية الأميركية التي تسود العالم، دخل هو أيضا في عصر العولمة القانونية، التي أسهمت في ازدهار ثقافة حقوق الإنسان، وسقوط الحواجز بين الدول، ولاسيما تلك الدول الشمولية التسلطية في العالم الثالث التي تعيق التطور نحو قيم إنسانية مشتركة يعتمدها مجتمع دولي يليق بهذه التسمية، كما تعوق تطبيق الآليات القانونية المرافقة لهذه القيم. و جاء إنشاء محكمة الجزاء الدولية ليحرر موضوع حقوق الإنسان من الذرائع و التبريرات الايديولوجية، والمعايير المزدوجة التي تستخدمها الولاياتالمتحدة الأميركية. و أدرك العديد من حكام العالم الثالث أن العالم قد دخل في عصر إلغاء الدفاع «عن الحصانة المطلقة» التي كان يتمتع بها الدكتاتوريون، فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة باسم الدولة، و لهذا السبب بالذات أصبحوا يتشبثون بمراكزهم السلطوية مخافة من جزاء التاريخ الذي ينتظرهم. لقد فتح القانون الدولي إمكانية مشروطة لمحاكمة رؤساء الدول والمسؤولين السياسيين أثناء قيامهم بمهامهم، وخير دليل على ذلك قرار مجلس اللوردات الحاكم في لندن - فيما يخص جرائم الجنرال أوجستو بينوشيه- إضافة إلى النشاط الهائل للقضاة الأسبان وقرارات محكمة الجزاء الدولية في لاهاي بشأن محاكمة ميلوسيفيتش. كما أن القانو ن الدولي دمر ذلك الدرع الذي كان يحصن الجرائم التي ترتكب تحت ذريعة الأسباب السياسية. كاتب من تونس