: كتب زميلنا وصديقنا المحترم الأستاذ صلاح الدين الجورشي بتاريخ 9 تموز أو جويلية 2008 تقريرا موضوعيا شاملا حول "انقسام" وجهات نظر فاعلي التيار الاسلامي الوسطي تجاه موضوعي عودة المنفيين والمصالحة الوطنية ... التقرير المذكور والذي كان فرصة ثمينة لرصد معتبر لما يعتمل الساحة من نقاشات داخلية ومفتوحة تونسية تجاه أبرز موضوعين أثارا جدلا وحبرا كثيرا في صلب أكبر تيارات المعارضة السياسية كما شرائح معتبرة من النخبة الاسلامية التونسية الأكثر اعتدالا وانفتاحا في الساحة المغاربية وحتى العربية ... اللافت للنظر عند طرح هذين الموضوعين هو التسليم بحقيقة قبول وايمان الاسلاميين التونسيين بخيار المصالحة الوطنية على أرضية تنقية المناخ العام وتحرير الدولة من قبضة الوصاية الأمنية على الفضاء العمومي ... لقد تراوحت وجوه التيار الاسلامي الديمقراطي في التعبير عن عمق ايمانها بمسار المصالحة والوئام المدني الشاملين مابين مدافع عن الفكرة والمشروع الى حد المناظرة شبه اليومية على أعمدة الصحف والمواقع الالكترونية ومابين مرغم على مسايرة جمهور عريض لم يعد يقبل باعادة تكرار مغامرات سياسية كادت أن تقوض المنجز الثقافي والحقوقي الوطني ...
تأخرت كتابات بعض القادة البارزين السابقين والحاليين في حركة النهضة التونسية حول الموضوع واضطر البعض الى مسايرة مايطلبه الجمهور على خلفية حوارات عميقة ومفتوحة في الغرض انطلق أشدها قوة وعنفوانا سنة 2005 وهو ماحدى برئيس الحركة أ.راشد الغنوشي الى التعبير رسميا عن تبنيه لهذا الخيار في ذكرى التأسيس بالعاصمة لندن بنفس التاريخ ... وبالمقابل وحينما اضطر هذا النقاش الساخن وغير المسبوق بعض فاعلي الحركة واطاراتها التنظيمية الى الخروج بنص استقالات أو تجميد للعضوية على خلفية غموض قيادي غير مفهوم لاسيما بعد لقاء وفد المكتب السياسي لحزب النهضة لسفير تونس بالعاصمة السويسرية برن ..., بالمقابل جاء خطاب الرئيس بن علي انذاك وبتاريخ 25 جويلية 2005 مخيبا لامال النخبة السياسية الاسلامية والنخبة الوطنية المعارضة حين تمسك بخيار الاعراض عن الدخول في حوار وطني عادل يشمل التيار الاسلامي الوسطي التونسي ... تطورت الأمور كرونولوجيا الى تبني معظم الاسلاميين التونسيين بعدها لمشروع 18 أكتوبر للحقوق والحريات على خلفية تجاهل السلطة لأصوات الاعتدال واعراضها عن ادخال البلاد في حقبة من الاصلاحات السياسية ..., غير أن السلطة لم تفهم مجددا الرسالة وحاولت بكل الوسائل والسبل تفكيك تحالف الحريات في تونس دون الالتفات الى دوافع حالة القلق السياسي العام ومالازمها من خروقات حقوقية لاتليق برصيد تضحيات التونسيين والتونسيات في معارك البناء والاستقلال ... عادت الامال بعدها مع اطلاق عشرات الكوادر القيادية والأعضاء في تيار النهضة من السجون التونسية بعد رحلة اعتقال مأساوية طاولت مالايقل عن العقد ونصف من الزمن..., وتجددت بعدها الامال في انخراط السلطة في عملية مراجعة سياسية وحقوقية متدرجة ومع عودة هذا الأمل عاد الكثير من أقلام النخبة الاسلامية الى احياء نقاش وطني صادق حول ضرورات المعالجة السياسية في اطار مشروع للمصالحة بين ابناء تونس برغم فداحة ماوقع على صعيد التهام حقوق الناس والجماعات ... مناخ حوارات المصالحة التي تجددت مع قرب الاحتفال بالذكرى العشرين لاعتلاء الرئيس بن على لسدة أعلى هرم السلطة ووجهت على مايبدو بعملية التفافية من داخل أجنحة يسارية متوغلة في عمق مؤسسات الدولة , وهو ماجعل الذكرى تمر دون اطلاق سراح سجين رأي واحد ...!!! اضطر دعاة المصالحة وقادة الرأي فيها الى العودة الى مربعات الضغط السياسي المتوازن والمشروع - ومنهم صاحب هذا المقال - , حيث لم تترك السلطة لنا سبيلا للتمايز عن غيرنا على مستوى الأطروحات في ظل جدل عقيم لم يعد له من معنى سوى امتاع ومؤانسة عناصر الجذب الى الوراء داخل أجهزة الحكم ... مورس الضغط السياسي مجددا وبوتيرة هدفت الى احراج السلطة ودفعها الى الشعور بخطورة سياسة تواصل الاعتقالات والمحاكمات على خلفية الفكرة والموقف من الشأن العام , وتطورت الأمور الى تعبير الجماهير التونسية في مدينة قفصة والحوض المنجمي وماجاوره عن حالة غضب دوافعها الظاهرة اجتماعية ومحركوها الكبار على دراية دقيقة بقواعد التدافع السياسي ... بعد ذلك وفي ظل تواصل محنة قفصة الاجتماعية وفي ظل تصاعد حملة الاعتقالات والمحاكمات لرموز النضال الحقوقي في تونس وفي ظل مصادرة حق التنظم والتعبير لأبرز مكونات المجتمع المدني , خرجت مبادرة التيار الاسلامي الوسطي - دون تأطير حزبي - بمفاجأة اثارة موضوع المنفيين السياسيين في اطار وطني جماعي بعد أن تعددت بالونات الاختبار على مستوى فردي وتأكد في أكثر من مناسبة مراهنة بعض المتحالفين مع السلطة على استثمار غير شريف لهذا الملف من أجل تقوية مواقع النفوذ السياسي ... لم تكن موضوعات اطلاق سراح المساجين السياسيين ولاايقاف المحاكمات السياسية ولاايقاف الاعتقالات على خلفية الرأي ولاعودة اللاجئين السياسيين الى وطنهم تونس أو ماشابهها من هذه الملفات ..., لم تكن أبدا موضوعات ذات صبغة انسانية كما يكرر البعض من أصدقائنا داخل السلطة , حيث يراد لنا موضوع شفقة ورحمة في أقصى الحالات - هذا ان وجدت هذه الشفقة..- مع تجريدنا من حقوقنا الدستورية والقانونية التي أريد سلبها بموجب أحكام سياسية لامجال لعودة الى الوطن دون الغائها وتبرئة ذمة أصحابها , اذا لامعنى لجوازات سفر تونسية تكون طريقا سالكا لمتسلميها لوضعهم وراء قضبان حديدية ليس فيها أي مسحة من الانسانية ولا الحس السياسي الوطني... المصالحة والعودة الذان نريدهما هما أكبر من الاستثمار الشخصي للبعض مع تقديرنا لحسن نوايا الكثيرين في الطواقم القنصلية والديبلوماسية أو حتى لبعض الوسطاء الذين عرضوا علينا الارتقاء السياسي في مقابل الصمت عن المظلمة الكبرى داخل الوطن أو في صلب الشتات والمنفى... نعم ألف مرة للمصالحة على أساس من العدل واسترداد الحقوق وطي صفحة الماضي المؤلمة , ولالمصالحة اللبن المغشوش التي تقدم بضرب البندير من عاصمة شكسبير أو باعلام المدائح والأذكار من أفواه بعض متنفذي صناعة الوعود والكلام من أجل تسلق البيت السياسي الرسمي وحيازة مواقع متقدمة فيه على حساب عذابات المخاض الديمقراطي وتطلع التونسيين والتونسيات الى تحقيق شروط الاستقلال الثاني ... هذه هي الصورة اليوم في تونس : فاما مصالحة تعني جلدا للذات في مقابل ضحك على الذقون تقابلنا به السلطة كثمن لاعتدالنا وتوسطنا ...! , واما عودة للوطن كعابري سبيل ليس لهم من قرار بعد زوال موسم المهرجانات وانتهاء مواسم الفرح الدائم ...! اذا كان هذا ثمن تضحياتنا وتشردنا والامنا والام أبنائنا الذين لم يعرفوا طعم اللغة الأم ولانكهة منارات الزيتونة الشامخة ولا مذاق زيت الزيتون من أشجار صفاقس وسوسة والمهدية وجرجيس ولاعذوبة مياه سبيطلة وزغوان ...ثمن تقابله عودة ذليلة مع تكميم الأفواه وصم الاذان وسد العيون واسقاط منابر تنفسنا الفكري والسياسي والاعلامي ..., فلاحاجة لنا بهذه العودة حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا وهو خير الفاتحين ... والى ذلك الحين فليستمتع هؤلاء الأصدقاء بالحديث عن معنى العودة الانسانية وعن معنى معالجة ملف معتقلي الرأي في اطار انساني أو عن معاني مبتدعة من صميم اطالة محنة الوطن والمواطن عبر تزيين القمع واخراجه على الفضائيات في أحسن صورة ... سنلتقي حتما أيها الوطن والمواطن ولكن بجواز الحرية وشموخ جيل أول صنع تاريخ سنة 1956 وجيل ثاني مازال على العهد من أجل استكمال مشوار الاستقلال الثاني ودولة الحق والقانون ... وماذلك على الله بعزيز . مرسل الكسيبي بتاريخ 15 أوت 2008- الجمعة 13 شعبان 1429 هجري لمراسلة الكاتب : [email protected] *