يبدو واضحا للعيان توتر الأوضاع التونسية على كل الجبهات وعجز النظام الحاكم عن ملاحقة الأحداث والاحتجاجات بما يحمله ذلك من مؤشرات لوقوفنا على أعتاب نقلة جديدة في نظامنا السياسي. فعلى الجبهة الاجتماعية، يمثل تواصل انتفاضة الكرامة لأهلنا في الحوض المنجمي، للشهر الثامن على التوالي، حدثا عميقا ونوعيا في دلالاته السياسية حيث شكل عجز السلطة عن تطويق الأزمة، فضلا عن حلها، إثباتا عمليا لفشل الخيارات التنموية وخيانة موصوفة لشعار "دولة القانون والمؤسسات". لقد فضلت السلطة كعادتها التعاطي الأمني مع المشكلة الاجتماعية ولم تلجئ للحوار إلا لأغراض التمويه وربح الوقت أملا في تراجع قوى التمرد والاحتجاج أمام سطوة الآلة القمعية التي لم تتردد في ارتكاب جرائم قتل المدنيين وتعذيبهم ومحاكمتهم بسبب رفضهم للجوع والفساد. إن نداءات الاستغاثة التي توجه بها عديد المسؤولين الحكوميين، رئيسا ووزراء وإعلاميين، إلى رؤوس الأموال من أجل الاستثمار في "مناطق الظل" ومزيد العناية بها هو اعتراف صريح بإخفاق الدولة وعدم قدرتها، في ظل أزمة الغلاء العالمي الناتج أساسا عن ارتفاع أسعار المحروقات، على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. يدرك التونسيون أن شريحة رؤوس الأموال التونسية التي أنتجها النظام الحالي لن تستجيب أبدا لنداءاته لأسباب عديدة أهمها أنها تعيش هي الأخرى، كما سائر الشرائح الاجتماعية، في وضع أسر واختناق وتبعية كاملة للمتنفذين في أعلى هرم الدولة. أما خيار الاندماج الأعمى في العولمة المتوحشة والرضوخ اللامشروط لإملاءات صندوق النقد الدولي وسائر مراكز التمويل والإقراض فلم يفرز لنا سوى ''فئة كومبرادورية'' لا يتجاوز دورها الوساطة بين المنتج الأجنبي والمستهلك المحلي ضمن شبكة علاقات زبائنية تضع الربح السريع في صدارة أولوياتها ولا تكترث أبدا لإنتاج الثروة الوطنية وتحسين شروط المنافسة في السوق الدولية. إن الاقتصاد التونسي قائم، بشهادة أهل الاختصاص، على ''آلية التعديل خارج دائرة السوق'' أي أنه لا يستطيع مقاومة اختلالاته البنيوية بغير الضخ الخارجي، المشروط طبعا بعلاقات التبعية والولاء السياسي. وباعتبار أن أزمة الغلاء العالمي مرشحة للتفاقم في المستقبل القريب، خصوصا مع عودة شبح الحرب الباردة واحتمال تفجر حروب ونزاعات جديدة، فإن الضخ الخارجي سوف يتقلص وستبحث دول المركز عن حماية مصالحها بوسائل أقل كلفة من دعم بعض الأنظمة الدكتاتورية الفاشلة، ولن يكون ذلك بغير إجبارها على إدخال تعديلات جوهرية في بنية أنظمتها السياسية تمكنها من احتواء "بعض" المطالب الاجتماعية والسياسية. على الجبهة السياسية يتصاعد الاحتجاج أيضا لدى كل أنواع الطيف الإيديولوجي والسياسي. ولئن كان التمايز واضحا بين أنصار" المشاركة الاحتجاجية" القائمة على المطالبة بتوسيع المشاركة وإصلاح المنظومة الدستورية والتشريعية ودعاة "المقاومة المدنية" القائمة على رفض النظام الحاكم باعتبار عدم قابليته للإصلاح فإن الوحدة الموضوعية بين التيارين تتجلى في إجماعهما حول مطلب الإصلاح السياسي الشامل المرتكز بدوره على عقيدة سياسية واحدة ترفض الشرعية القائمة وتنادي بسيادة الشعب ودولة الحريات والديمقراطية الحقة. هذه الوحدة الموضوعية تتجلى في مطالبة كل الأحزاب السياسية الجادة والممثلة بضرورة التخلي عن التعاطي الأمني مع الملفات الساخنة وضرورة فتح حوار وطني شامل يقي البلاد شرور اهتزازات قادمة لا مصلحة لأحد فيها كما تتجلى أيضا في تصعيد خطابها الاحتجاجي ونسق حركية مناضليها في مختلف الأطر الجمعوية والنقابية والإعلامية. يمكننا اعتبار أحزاب ''الوفاق الديمقراطي''، أي الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحزب العمال الشيوعي التونسي، رغم حالة النخبوية المفروضة والخلافات الداخلية المفتعلة، حلقات متقدمة في جبهة الاحتجاج هذه، بل إن غباء الاستبداد يزيدها كل يوم تضامنا وتقاربا إلى الحد الذي لا يجد فيه التونسيون تفسيرا لعدم توحدها جميعا في جبهة وطنية ديمقراطية دائمة. كما تمثل حركة النهضة فاعلا رئيسيا في هذه الجبهة إلى الحد الذي يعتبرها كثير من المراقبين مالكا حقيقيا لفيتو الانفتاح السياسي حيث لا معنى لأي ديمقراطية تقوم على إقصاء خصم بلغت شعبيته حد بروز ما عرف في العقدين الأخيرين بظاهرة الاستقطاب (سلطة / حركة إسلامية). وبالرغم مما يشاع من وجود تيار داخلها يدعو"للملاينة" مع الاستبداد، بذريعة الواقعية بمفهومها الساذج كمصالحة مع الواقع، فإن نزعة "المغالبة"، فيما هي سعي لتغييره، تبدو أكثر واقعية ، لدى قيادة هذا التنظيم وأنصاره، متغذية في شرعيتها من استمرار معاناة مساجينها ومواصلة اضطهاد المسرحين منهم ومن تواصل هجمة النظام الحاكم على كل قوى المجتمع المدني، هذا فضلا عن مرجعيتها الدينية وإرثها التاريخي الذين يمجدان التضحية والصبر في مقارعة الظلم ويربطان مفاهيم الأمانة وخلافة الإنسان بمقاصد العدل والحرية. الفاعل الآخر في جبهة الاحتجاج السياسي هو بعض القيادات النقابية اليسارية، المستقلة والنزيهة، التي شكل حضورها الميداني وتغطيتها الإعلامية لأحداث الحوض المنجمي رسالة ذات مضمون وطني أصيل قد تخرج اليسار التونسي من أزمته عبر استعادة دوره التاريخي في تجذير المطالب الاجتماعية والاقتصادية والولاء للطبقات الفقيرة والفئات المهمشة. أما الجبهة الحقوقية فتكاد تتحول إلى حقل ألغام يستحيل على النظام ولوجه دون خسائر فادحة. فقد نسجت شخصيات سياسية بارزة وجمعيات حقوقية ذات صيت عالمي شبكة علاقات دولية واكتسبت خبرة ومهنية فائقة بحيث أصبحت مستعصية على العقل الأمني للسلطة وأضحت أساليب هذه الأخيرة في محاصرتها من مضحكات الاستبداد. تعدد الملفات الحقوقية وبراعة الحقوقيين التونسيين، على قلتهم، في إبلاغ صوتهم وتظلمهم إلى نظرائهم في العالمين العربي والغربي أفسد حسابات السلطة في تسويق نموذج البلد الآمن أو "الديمقراطية الناشئة" رغم تخصيص مبالغ مالية ضخمة وتسخير إمكانيات بشرية هائلة تشهد بها وكالة الاتصال الخارجي وصحافة القصر. انتشار ظاهرة التعذيب وتعميم الاضطهاد على الطبقات الاجتماعية الكادحة وفرض حالة الطوارئ غير المعلنة أو حصار مدن بأكملها جنوب البلاد فضح للرأي العام الوطني والدولي ذريعة "مكافحة الإرهاب" كتبرير للحملات الأمنية والانتهاكات الإنسانية الفظيعة التي عانى منها آلاف التونسيين من ذوي التوجهات الإسلامية واحترقت بنارها أكباد مئات الآلاف من ذويهم. كما أن جريمة التغريب ومنع مئات التونسيين من حقهم في العودة الآمنة والكريمة إلى بلادهم لمدة تفوق العقدين، عند بعضهم، بسبب الاضطهاد السياسي والمحاكمات الجائرة، وإصرار هؤلاء في المقابل على استرداد حقهم في إطار مبادرة شعارها "العودة حق واسترداده واجب" سيضر كثيرا ب"سمعة النظام" ويضعف من مصداقيته، المتهاوية أصلا، لدى كثير من نزهاء صناع القرار وفي أوساط النخبة الغربية "صديقة الشعوب" بعد أن تعرفت هذه الأخيرة على "اللاجئين التونسيين'' مباشرة وعاينت نزاهتهم واعتدالهم وتعاطفت مع قضيتهم كما تأكدت من فرادة النموذج التونسي في "الديمقراطية" وبراعته في فنون التمويه والخداع على المجتمع الدولي. وبكل يقين وأمل نستطيع الجزم بأن التطورات الداخلية الأخيرة على الجبهة الحقوقية وتوسع خلاياها العنقودية يشكل حصانة قوية للقوى الاجتماعية والسياسية المتمردة هذا فضلا عن قدراتها المتزايدة في توجيه ضربات موجعة للنظام الاستبدادي وتمكنها من فضحه خارجيا إلى درجة أصبح معها مدانا وغير مرغوب فيه لدى أغلب العواصم والنخب الغربية رغم مواصلة تدفق الدعم من حكوماتها لضرورات إستراتيجية قابلة للتعديل وحتى للمراجعة الجذرية في عالم التحولات السريعة. لا يختلف الأمر فيما يتعلق بالجبهة الإعلامية حيث نسجت كفاءات تونسية شبكة عنكبوتية متطورة امتدت خيوطها في كل الاتجاهات وتمكنت أقلام وطنية حرة من اكتساح أوسع الصحف العربية والأوروبية انتشارا منبهة الرأي العام العربي والدولي إلى حقيقة ما يجري في ''بلد الياسمين''. ورغم أن العالم الافتراضي لم يسلم هو الآخر من مداهمة البوليس السياسي، تضييقا على المدونين الأحرار وحجبا للمواقع الحزبية والجمعياتية وصدا لفضاءات التقاء عالمية، كاليوتيوب والفيس بوك، لمنع مرتاديها من التآمر على أمن البلاد وتهديد "ديمقراطيتنا الناشئة"، فإن الرد جاء سريعا ومصمما من آلاف الشباب الغاضب على سياسة القمع والملاحقة الافتراضية بل إنه أعاد التجمهر والتنظم عبر عريضة ال" 25 ألف تونسي للضغط على الوكالة التونسية للانترنيت لكي تفتح الفايس بوك"، مؤكدا للمرة الألف أن المجتمع الحي ينتج آليا دفاعاته المدنية كمضادات حيوية لمقاومة داء الاستبداد. ليس الحال أقل توترا واضطرابا على الجبهة الثقافية بدليل ''فوضى المهرجانات'' والسياحة المتوحشة وما يرافقها من مظاهر العربدة والسكر والأخلاق الهابطة والتي تؤشر كلها على تفاقم ظاهرة العنف الداخلي كشكل من أشكال التنفيس الاجتماعي عن الاحتقان والغضب. هذا العنف الداخلي بدأ يجد مسالك جديدة للتعبير عن نفسه خارجيا في إطار ما عرف السنة الماضية ب''فوضى الملاعب'' حيث تحولت هذه الأخيرة وباستمرار إلى ساحات لتفجير غضب جيوش الناقمين والعاطلين، وتحولت الجماهير إلى وحش كاسر يصعب ترويضه لأنه لا يفقه كثيرا في علوم المنطق والقانون والسياسة. رقعة هذه الفوضى مرشحة للتوسع واكتساح مساحات جديدة بل ربما تلتقي مع تمرد الجامعات والنقابات والسجون والمناجم. الوضع على كل هذه الجبهات ينذر بتصعيد خطير قد يفتح البلاد، خلال الخريف القادم، على فوضى لا يتمناها أي تونسي غيور على وطنه خصوصا وأن الضحايا كانوا في السابق غالبا من الفقراء والكادحين. ولعلني أفاجئ القارئ الكريم إذا اعتبرت أن للاستبداد وجرائمه بعض المنافع لأنه ساهم، عكسيا، في إنتاج دفاعات صلبة للمجتمع المدني يقوم عليها مناضلون شرفاء أشاوس، نذروا بقية حياتهم وكل غال عندهم، للذود عن كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته في وجه كل أنواع الانتهاكات والمقايضات. بل إنني أراه الطريق الطبيعي الذي سلكته ''مجتمعات الحداثة السياسية'' حيث تتكون الجمعيات المدنية الفاعلة، كسلطة مضادة ودعامة أساسية للديمقراطية، عادة من نواة صلبة لمناضلين عانوا الاضطهاد والعنصرية فأدركوا أن الحرية قيمة متعالية لا تتحقق أرضيا بغير مسلك التحرر الدائم. الحصيلة هي أن أغلب المؤشرات تدل على أن النظام الحاكم أضحى في وضع حصار" داخلي'' من طرف قوى المجتمع المدني وجماهير الشعب الغاضبة، و''خارجي" من طرف قوى دولية هي أحرص على استقرار الأوضاع وضمان مصالحها الإستراتيجية منه على مواصلة دعم حليف يجرها، بكبريائه وعناده، إلى فقدان كل شيء. ولن يتيسر للنظام الحاكم فك هذا الحصار بغير ابتكار حلول عقلانية "جديدة" تتجاوز غريزة البقاء، المعبر عنها في القاموس السياسي والإعلامي بالحفاظ على الأمن، إلى الانفتاح الحقيقي على المجتمع وقواه الحية. وللأسف فإنه يحاول اليوم عبثا تخفيف التوترات الاجتماعية والسياسية عبر سياسات قديمة بالية تقوم من جهة على اجترار الوعود الزائفة أو الاستجابة لبعض المطالب الهامشية، ومن جهة أخرى على أساليب استخباراتية عفى عنها الزمن من مثل استمالة بعض قدامى المحاربين أو محاولة زرع الفتنة والانقسام داخل الجماعات الاحتجاجية. عبثا أيضا تراه يراهن على استمرار الدعم الخارجي كسند أساسي لبقائه لأن الكلفة أصبحت باهظة وربما غير متناسبة مع رداءة الخدمات التي يقدمها بدليل تصاعد ظواهر السلفية والهجرة السرية و الفقر والجريمة بمختلف أشكالها مما يهدد مباشرة أمن وسلامة دول الضفة المقابلة ويوهن مبرر دعمها للدكتاتوريات لدى شعوبها على حساب رفاهيتهم المتناقصة تدريجيا. الخارج ''شاطر جدا'' ولن يجازف أبدا بحركة الجماهير أو انفجار الأوضاع بالكامل، وخصوصا في الضفة الجنوبية للمتوسط، وهو يدرك تماما أن الأوضاع التونسية بدأت تخرج فعلا عن سيطرة النظام الحالي وأن المطلب الديمقراطي الذي تأجل كثيرا تحت ذرائع الوحدة الوطنية ثم التنمية الاقتصادية فمقاومة الإرهاب، لم يعد يحتمل التسويف أكثر، لكنه ربما يحاول مرة أخرى إنقاذ الاستبداد من حماقاته عبر تجديد قشرته الخارجية دون المس طبعا من جوهر علاقات التبعية. كارثة أخرى تحل بنا لو حدثت، لذلك ينبغي أن يكون ذكاءنا الوطني في مستوى حدية محنتنا وأرقى من ''شطارتهم'' حتى لا نلدغ من جحر واحد ''مرتين''. علينا إذن أن نمنع الاستبداد من التجدد، ولن يكون ذلك بغير مواصلة النضال والصمود، تجذيرا لثقافة المقاومة المدنية وتمسكا بالمطالب الديمقراطية والاجتماعية ونشرا للوعي السياسي في كل الفضاءات العمومية. التغيير حتمي وديناميكيته في تسارع، وسيكون "التحدي" هو شعار المرحلة القادمة، تصادره هذه المرة الحركة الديمقراطية من غريمها (الحزب الحاكم) بعد أن كانت دائما في وضع الضحية التي سرقت منها كل الشعارات (الديمقراطية – حقوق الإنسان – التغيير – الحرية – الحوار الوطني...). تغيير لن يكون قطعا في صورة ثورة شعبية عارمة فمشهد الثورات ممنوع بالفيتو الأممي في أوطاننا، ولكنه تغيير في بعض وجوه الحكم وتعديل لأساليبه. فلنعمل جميعا، فرادى وجماعات ما استعصى التنسيق والتوحد، من أجل أن يكون هذا التغيير في منهج الحكم حقيقيا لا وهميا، هذه المرة، تمهيدا لتغييرات قادمة تطال جوهر النظام السياسي، عسانا نغادر الزمن الضائع ونلج فعلا حقبة '' الدولة الوطنية'' كإطار لممارسة قيم "المواطنة الحقيقية".