منذ أن تشكلت الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستقلالات العربية، و الحكام العرب يرفضون مساءلتهم عن خياراتهم / أو عن استمرار بقائهم في السلطة ، رغم انتهاء مدتهم الدستورية، بل إنهم يلجؤون إلى القيام بتعديلات دستورية ،يصادق عليها في استفتاءات شعبية ، طبقا لواقع كل بلد عربي، حتى يصل الأمر بالتتويج الشعبي إلى التتويج الملكي، أو الرئاسي مدى الحياة، الذي يمكن الحاكم من تمركز السلطات بين يديه، وتجعله يستغني عن الشرعية الدستورية والشعبية، ويضيق أكثر فأكثر مجرى شرايين الديمقراطية. و حين تصبح عملية الانتقال إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع مستحيلة في العالم العربي ،جراء ضعف التغيير من خلال المؤسسات التي لا تؤمن الترابط ، الأساسي في النظام الديمقراطي، بين القرار و المسؤولية،نتاج لجوء الحكام إلى تفصيل ديمقراطيات على مقاسهم ومقاس أبنائهم من بعدهم ، تطرح النخب الفكرية و الثقافية و الديمقراطية العربية سؤالا جامعا، أيهما كان أفضل أن يتم التغيير في أي بلد عربي بواسطة تدخل القوى الأجنبية كما حصل في العراق ،حيث دفع الشعب العراقي ثمنا باهظا ً جدا ً، وخلق حالا ً من الفوضي وعدم الاستقرار، أومن قبل المؤسسة العسكرية و الأمنية - كشكل وحيد للتغيير من الداخل دون دعم من الخارج؟ إن رفض الديمقراطيين العرب لهذه الأشكال من الانتقال للسلطة الآنفة الذكر ينطوي علي الكثير من الصدقية ، ولاسيما أن معظم مآسينا كعرب جاءت من انقلابات عسكرية أو دستورية -و لافرق هنا بين هذا وذاك- قدمت لنا في بدايات حكمها مشاريع سياسية براقة ما لبثت أن تحولت إلى أوهام وخراب ، حين تمسك الانقلابيون بالحكم بصورة إطلاقية،وأخفقوا في مجال التنمية المستقلة ، و في عملية تحرير الأرض السليبة، وبناءالديموقراطية. يكاد لا يخلو أي دستور دولة عربية من الإشارة الواضحة في بنوده المتعددة إلى احترام المؤسسات ،و احترام القانون، و الحريات الفردية و العامة ، و التداول السلمي للسلطة،عبر إفراده أحكاما خاصة بها، وتنصيصه على الوسائل الكفيلة بصيانة ممارستها وجعلها في منأى عن تعسف السلطة وشطط ممارسيها.. فالدستور، بما هو ضبط لقواعد ممارسة السلطة، يصبح ضامنا للحقوق والحريات، لذلك، لا تقاس ديمقراطية الدساتير بمدى إقرارها للحقوق والحريات فقط، بل تتحدد أيضا بدرجة حرصها على تأكيد الشرعية الدستورية، أي جعل ما هو مدرج في باب الحقوق والحريات محترماً على صعيد التطبيق والممارسة. و مع كل ذلك، فإن الباحثين السياسيين وعلماء الاجتماع المهتمين بتأصيل فلسفة سياسية عقلانية عن الدولة الحديثة والمجتمع المدني في العالم العربي يعتقدون جازمين أن المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية مأزومة، بدءا من دورالبرلمان ، الذي لم يعد يتحكم حتى بجدول أعمال جلساته، مرورا بشخصنة النقاشات عبر لعبة الانتخابات الرئاسية، أو من خلال إفراغ فصل السلطات من معناه. يمكن التعرف في واقع الدولة العربية مابعد الاستقلال السياسي، إلى أن سيرورة تطور بنيتها وخصائص وظائفها الاقتصادية، أم السياسية القمعية، أم الدمجية، أم التقنية تختلف عن السيرورة التاريخية لتبلور الدولة البرجوازية في الغرب ( أوروبا الغربية وأميركا الشمالية)، بسبب من تطورها كدولة رأسمالية في ظل الرأسمالية المتأخرة، لعبت دور رأس جسر للبرجوازية الاحتكارية الامبريالية، ومفوض وكيل للرأسمال الدولي، وتقوم بوظائف إعادة الانتاج المندمج في السوق الرأسمالية العالمية، وبالتالي إعادة إنتاج سيروة الاستغلال من جانب رأس المال. وليس من شك أن هذه العلاقة الأدواتية قد أسهمت في تقليص السيرورات السياسية ضمن وبين مكونات المجتمع المدني الوليد، وتحويل هذه الدولة ذاتها - التي هي بالأساس دولة لا قانونية حيال غالبية الشعب- من دولة في ظل « اللحظة الليبرالية » التي عرفها العالم العربي، التي تقوم على مؤسسات مستقلة نسبياً في إطار وظيفتها إلى دولة سلطة، أعادت إنتاج مؤسسات الدولة وفق مصالح الفئة الحاكمة، حتى بات التمييز صعباً بين السلطة والدولة. أساس هذا التحول يكمن في تشظى الحقل السياسي للفئات الوسطى التي حملت مشروع الدولة القومية، واستئثار الشريحة المحافظة منها بالحكم، وهيمنتها على الثروة المجتمعية. وقد تحولت العلاقة بين الدولة والمجتمع من علاقة وحدة وتعارض وتفاعل إلى علاقة تحكمها عملية مزدوجة، هي عملية الاحتواء والتهميش جراء هذه العملية تحولت علاقة الدولة بالمجتمع إلى علاقة الدولة بأفراد منعزلين، بعد إلغاء دور المؤسسات الوسيطة التي تلعب دور التمثيل. هذه الدولة المستندة إلى مشروعية إيديولوجية وطنية أو قومية وليس إلى مشروعية مجتمعية أخذت على عاتقها عملية إعادة إنتاج وعي سياسي مطابق لطبيعتها، وانتقلت من دولة حق وقانون إلى دولة عسف وامتيازات. والامتيازات، هنا ليست امتيازات طبقة برجوازية بالمعنى التقليدي للكلمة، وإنما امتيازات البيرقراطية للدولة التسلطية. يتفق علماء الاجتماع والسياسة على أنه ليس هناك دولة دستورية في العالم العربي ، ومشروعيتها، بالمقارنة مع دولة القانون التي وضعتها الثورات الديمقراطية البرجوازية المتعاقبة في الغرب،وركائزها الحديثة باعتبارها دولة تقوم على المذهب الوضعي الذي يستند بدوره إلى الفكرة القائلة أن الدفاع عن القانون يقوم على الحرية.و في ظل غياب الحرية ينعدم القانون. ومازال الفكر السياسي العربي يفتقر افتقارً فعلياً إلى بلورة نظرية حول طبيعة الدولة الدستورية العربية، وهو مايشكل واحدة من أهم أزماته، فضلاً عن أنه يتجاهل التمييز بين الدولة والسلطة، لأن فكرة الدولة في العالم العربي لم تتغير كثيراً عن معنى الدولة قبل الأزمنة الحديثة، حيث كان معنى الدولة عند ابن خلدون على سبيل المثال هو مدة حكم أسرة حاكمة تبعيتها، أو الامتداد الزماني والمكاني لحكم عصبية من العصبيات، سواء أكان هذا الحكم عاماً أوخاصاً. وحين نتأمل في أحوال الدولة العربية الراهنة، فإننا نجدها متماثلة مع السلطة، بماأن هذه الدولة على الرغم من أنها ذات دستور، تقلصت إلى حدود العاصمة بحكم مركزية السلطة فيها، وبالتالي فهي دولة هذه العاصمة، لا دولة الأمة ولا دولة الوطن، وهي ليست دولة جميع المواطنين المتساويين أمام القانون، بل هي دولة متحيزة لحزب مهيمن أو لطبقة، أو لدين أو لطائفة أو لأثنية أو لأقليم بعينه. علماً أن الدولة لا تنحل كلياً في السلطة، ولا في الجهاز القمعي فقط، حيث أصبحت هي الجهاز القمعي بامتياز، و لا سيما حين نجحت هذه الدولة التسلطية العربية ، في اختراق المجتمع المدني بالكامل، محققة بذلك الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع. و هنا يكمن الفارق بين دولة عربية ذات دستور و بين دولة دستورية.فالدولة الدستورية هي تلك الدولة التي تقوم قولا وفعلا على احترام الحرية السياسية باعتبارها أصل الحريات وشرط تحققها، فبانعدامها تتعذر ممارسة «حرية الفكر والعقيدة والتملك» على حد قول مونتسكيو. والحرية السياسية لا توجد إلا في ظل الدول التي تحترم القانون ، و تؤمن إيمانا راسخا لا يتزعزع بمبدأ التداول السلمي للسلطة، و بالترابط الضروري بين الحرية السياسية وفصل السلطات. بينما الدولة العربية ذات الدستور، فهي تلك الدولة التي تنتهك القوانين و الأنظمة السائدة، لمصلحة النخبة الحاكمة، و هي التي تصادر الحريات و تعرضها للضرروالانتهاك،وهي التي ترفض أيضا إقامة نوع من التوازن السياسي عبرالالتزام بمبدأ فصل السلطات، بوصفه أداة فنية تجعل التعايش بين المؤسسات الدستورية أمرا ممكنا، ووسيلة للتوفيق بين المشروعيات المتنافسة والمتصارعة داخل المجتمع السياسي. وهذا هو مصدر نشوء الاستبداد في التاريخ السياسي العربي المعاصر.