كان القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فترة ثورات من أجل الحرية والتقدم والمساواة في البلدان الغربية. وقد خلبت أيديولوجيات التقدم والحرية خيال الشباب في الغرب. بدأ ذلك مع الثورة الأمريكية في سبعينات القرن الثامن عشر. فالتحق في صفوفها شباب أوربيون، وخاصة من فرنسا، التي كانت ما تزال ترزح تحت نير الاستبداد الملكي لأسرة البوربون. وبعد عشرين سنة انفجرت الثورة في فرنسا نفسها فألهبت خيال الملايين خارج فرنسا، فانضم إلى صفوفها أو قلدها آخرون. وشاعت ظاهرة "الثوري المتجول" بين شباب ذلك العهد. وكانت الحرب الأهلية الأسبانية في ثلاثينات القرن الماضي، ثم الثورة الكوبية بعد ذلك بعشرين عاماً آخر مناسبتين مشهورتين لظاهرة "الثوري المتجول" (Traveling revolutionary) . وفي أحد فروع علم الاجتماع المعني بهذه الظاهرة، خلص المحللون إلى أن النزعات المثالية من أجل حياة أفضل، وما يصاحب ذلك من رغبة في التغيير، والثورة على الأوضاع القائمة، والتخلص من "العهد القديم" واستبداله بنظام جديد، أشاع أجواء رومانسية حول ظاهرة "الثوري المتجول"، الذي لم يتوقف عند حدود وطنه الأصلي، بل توجه عبر الحدود إلى حيث تكون ثورة قد اشتعلت فعلاً، أو على وشك الاشتعال. وبين الأسماء اللامعة للثوري المتجول الفرنسي الكونت لافاييت والروائي الأمريكي الشهير أرنست هيمنجواي والطبيب الأرجنتيني أرنستو جيفارا، الذي انضم إلى فيديل كاسترو، في الثورة على الطاغية باتيسنا، في أواسط خمسينات القرن الماضي. وقد تذكرت ظاهرة "الثوري المتجول"، وأنا أتابع أخبار مصرع أبو مصعب الزرقاوي، الذي رأى العراقيون أساساً، وقوات الاحتلال بشكل ثانوي، على يديه فظائع قتل وتنكيل وتمثيل بجثث الضحايا بشكل غير مسبوق. إن هذا الرجل كان قد ولد وترعرع في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بمدينة الزرقا بالأردن، ومن هنا أخذ لقبه "الزرقاوي". ونحن لا نعرف كثيراً عن طفولته، سوى أنها مثل طفولة مئات الآلاف من الفلسطينيين بعد النكبة (1948)، ومثل ملايين اللاجئين والنازحين من أصول مختلفة حول العالم. فهناك منهم من ينجح في دراسته، ويواصل تعليمه، ويرتقي شأنه مهنياً واجتماعياً، فيغادر المخيم، ويبدأ حياة جديدة في أحد ضواحي المدن العربية، أو حتى يهاجر إلى احد بلدان العالم الأول، فيتضاعف حظهم من الحراك الاجتماعي إلى أعلى. ولكن يبدو أن أبو مصعب الزرقاوي لم يكن من هذا النوع الناجح مدرسياً، أو المنجز مهنياً. كذلك ظل حبيس بيئته المحلية في صباه وشبابه المبكر. ويقول معاصروه من أبناء الزرقا أن الفترة المبكرة تلك كان فيها صاحبنا شقياً عدوانياً ً، إلى أن تم استمالته وتجنيده بواسطة بعض الإسلاميين المتشددين في بداية العشرينات من العمر، فانخرط لفترة في صفوف "الأخوة" أو "الإخوان" الذين انطلقوا في بلاد الله الواسعة "كدعاة" أو غلاة" أو "عصاة" ضد السلطة في وطنه حيث ولد، بالعنف المسلح ليسقطهم. وحينما يفشل في ذلك يوجه نفس هذا العنف المسلح إلى أي سلطة حاكمة أو متحكمة في أي بلد قريب أو بعيد، ما دام يفعل ذلك باسم "الإسلام"، كما يفهم هو الإسلام. ويستوي عند هذا النوع من "الدعاة" "الغلاة" "العصاة" كل من الحاكم والمحكوم، ما داموا يختلفون عنه أو معه في "إسلامه" هو، كما يفهم هو هذا الإسلام. ومن هذا أن شخصاً مثل أبو مصعب الزرقاوي كان يمارس قتل جنود الاحتلال الأجنبي في العراق أو أفغانستان، سواء كانوا روساً في الأخيرة، أو أمريكيين أو إنجليز في الأولى. وربما كان هذا مفهوماً أو مبرراً كنوع من المقاومة المشروعة. ولكن الأمر لم يتوقف عند جنود الاحتلال، بل تعداه إلى المدنيين ذوي أي علاقة بهذا الاحتلال. ثم تعداه إلى مدنيين مسلمين سواء كانوا ذوي علاقة بهذا الاحتلال من قريب أو بعيد، أو لم يكن لهم أي علاقة على الإطلاق، وذلك لمجرد إخضاعهم أو إرهابهم. أي أن القتل والفتك بالآخرين، مسلمين وغير مسلمين، يصبح طريقة حياة للدعاة الغلاة العصاة. ومن هذا وقع ما وقع من تفجيرات لثلاث فنادق في العاصمة الأردنية، عمان في نهاية عام 2005، حيث كان مئات الضحايا من قتلى وجرحي يشاركون في أفراح ذويهم وأقاربهم وجيرانهم. ومن ذلك أيضاً أن الزرقاوي وأتباعه، توسعوا في الفتك والقتل والدمار ليشمل المسلمين الشيعة من أهل العراق، وليشمل مساجدهم وأسواقهم ومآتمهم. فالزرقاوي لم يكن يعتبر المسلمين الشيعة، مسلمين حقاً، بل "مسلمين رافضة ضاليين". أكثر من ذلك كان يبغي إشعال فتنة داخلية بين الشيعة والسنة من أهل العراق، على اعتبار أن ذلك نوع من "الجهاد"، واعتقاداً منه أن يستنزف به سلطات الاحتلال في العراق. وقد تطورت مناهج الفتك والقتل والدمار عند الزرقاوي وأتباعه لتشمل التفجيرات ، التي يموت فيها صاحبها مع ضحاياه. وهكذا أصبح هذا المنهج تدريجياً هو الأكثر شيوعاً عند "الزرقاويين". وهم في ذلك أخذوا عن قائدهم وإمامهم أسامه بن لادن، المنشق السعودي، ومساعده، أيمن الظواهري، المنشق المصري، اللذين خططا لتنفيذ العملية ذائعة الصيت، التي شملت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى البنتاجون قرب العاصمة الأمريكية واشنطون، يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، والذي راح ضحيته أكثر من ثلاثة ألاف شخص. والمتأمل لشخوص الضالعين في هذه العمليات يدرك أنهم ينتمون إلى بلدان عربية إسلامية مختلفة، استهوتهم جميعاً نفس مناهج الفتك والقتل والدمار، باعتبارها "جهاداً" في سبيل الله، لنصرة الإسلام، وباعتبار من ينفذوها هم "شهداء" وسيدخلون الجنة، . وربما كانت الرومانسية "الثورية" عند الشباب الغربي والرومانسية "الجهادية" عند الشباب المسلم متماثلتين في الدوافع والحوافز، ولكن شتان ما بين النتائج. والله أعلم. *