لا شيء أسهل في تونس من الحصول على عمل في أحد مراكز الاتصال الهاتفية أو ما يعرف بمراكز النداء، التي لا تهتمّ كثيرا بالمستوى الدراسي بقدر ما تهتمّ بإتقان اللّغة الفرنسية أو غيرها من اللّغات الأجنبية. ومراكز النداء هي شركات خدمات عن بعد تقوم ببيع منتوجات شركات أخرى أو تقديم الإرشاد لزبنائها عبر الهاتف، وذلك في خدمات مختلفة كالصيانة الإعلامية، أو الربط بالإنترنت، أو الاستشارة. لكنّ ما تساهم به هذه المراكز في خلق مناصب شغل جديدة وإنقاذ الآلاف من خريجي الجامعات من براثن البطالة، لا يحجب الوجه "القبيح" لهذا القطاع الذي يبقى عملا ظرفيا ومؤقتا بالنسبة إلى شريحة كبيرة من خريجي الجامعات. وقد تمكّنت مراكز الاتصال من امتصاص نسبة كبيرة من البطالة، في ظلّ صعوبة إيجاد شغل وارتفاع خريجي الجامعات. وهذه المراكز هي الأكثر نشرا لعروض الشغل في صفحات الجرائد والملصقات على الجدران. مزاحمة المغرب ويؤكد مصدر حكومي في وزارة تكنولوجيات الاتصال للجزيرة نت أنّ تونس تضمّ 185 من مراكز النداء التابعة لكبريات المؤسسات الأجنبية، وأن هذه المراكز تساهم في تشغيل ما يزيد عن 16.000 من خريجي الجامعات. واستطاعت تونس بفضل تطوّر البنية الأساسية للاتصالات وما يتوفر لديها من كفاءات، استقطاب مراكز النداء الأجنبية بالرّغم من أنّ المغرب يعدّ مزاحما عنيدا لها في هذا القطاع. وبما أنّ أغلب الكفاءات التونسية تتقن اللّغة الفرنسية، قامت عشرات من مراكز النداء الفرنسية بتحويل مقرّ نشاطها إلى تونس للاستفادة من اليد العاملة المؤهلة والانتفاع ببعض الامتيازات الجبائية. غير أن هذا الاستثمار الأجنبي الذي فتح أبواب التشغيل على مصراعيها أمام مختلف الشهادات والاختصاصات في بلد يصل فيه معدّل البطالة إلى حوالي 15%، تشوبه علامات استفهام كبرى حسب محللين. استغلال فاحش ويشتكي العاملون في مراكز النداء من الاستغلال الفاحش بسبب أوقات العمل المضنية، والتوتر الشديد الذي أصابهم نتيجة ارتفاع عدد المكالمات الهاتفية التي ينجزونها في اليوم، وكذلك الأجور التي لا تتناسب مع مؤهلاتهم. أحمد سلامة، مجاز في البيولوجيا ويعمل في أحد أبرز مراكز الاتصال الفرنسية، يقول للجزيرة نت إنّ جميع العاملين في هذا القطاع يتقاضون أجرا شهريا يقلّ بأربع مرّات عمّا تعرضه مراكز الاتصال في فرنسا. ويتقاضى هذا الشاب شهريا 500 دينار (383 دولارا) مقابل 10 ساعات عمل في اليوم، في حين يحصل مواطن فرنسي لم يكمل تعليمه الثانوي على أربعة أضعاف هذا الراتب مقابل ست ساعات عمل فقط في اليوم. ويعدّ العمل داخل مراكز الاتصال طيلة عشر ساعات كاملة في اليوم عملا شاقا بالنظر إلى التركيز الشديد الذي تتطلبه مثلا عملية إقناع الزبناء (عبر الهاتف) بأهمية منتوج ما ودفعهم إلى اقتنائه. ويصطف العاملون في هذه المراكز في شكل مجموعات، ولا يكاد يلتفت أحدهم يمنة أو يسرة إلا حينما ينجز عملية ناجحة، سواء ببيع مادة أو خدمة، أو مساعدة زبون على حلّ مشكلة متعلقة بالإنترنت مثلا. ضغوطات نفسية بدورها تعاني هندة الشناوي، المجازة في الاتصالات، من ضغوط نفسية حادّة حيث تستقبل يوميا آلاف المكالمات المتتالية، وهي تستمع بانتباه شديد إلى الزبناء لتلبية طلباتهم، الأمر الذي أضرّ كثيرا بسمعها وأذنيها. وتقول في هذا السياق "أشعر بالتوتر الشديد لأننا دوما تحت مراقبة المسؤولين الأجانب الذين يتنصتون على مكالماتنا مع الزبناء للضغط علينا وتحقيق أكبر عدد ممكن من عمليات البيع". وكثيرا ما يتفاجأ بعض حاملي الشهادات العليا العاملين في مراكز النداء بإنهاء خدماتهم بعد أشهر من العمل، بحجة عدم تمكنهم من تحقيق الأهداف المرسومة (بسبب تدني المبيعات، أو عدم إرضاء زبناء...)، وهو ما يمثلّ "عودا على بدء إلى عالم البطالة" حسب هندة.