قبيل سنوات قلائل تشرفت بلقاء مسؤول بارز بالحزب الاشتراكي الديمقراطي بألمانيا, وقد تجاذبنا أطراف الحديث بخصوص موضوعات الانتقال الديمقراطي بالمنطقة العربية كما بلاد اسلامية أخرى ... كان الحديث ذي شجون, حتى روى لي السياسي الألماني تذمره من ممارسات تونسية رسمية يقابل بها طاقم السفارة الألمانية بالعاصمة تونس ..., فقد قال لي بالحرف الواحد بأن مكالمات طاقم السفارة تخضع للتصنت والمراقبة المستمرة على مدار الساعة ...! عادت بي الذاكرة الى أولئك السياسيين الألمان الذين التقيتهم وتحدثت معهم بشأن موضوعات حقوق الانسان والحريات العامة واشكالات التداول على السلطة .., وانتهيت الى استخلاص مفاده أن السياسة تقود أصحابها ومناضليها في الغرب الى قبة البرلمان أو المقاعد الحكومية أو الى تقلد المناصب الرسمية والديبلوماسية للدولة..., وبالمقابل فان الانخراط في الحقل السياسي المعارض قد يحمل أصحابه بمنطقتنا الى غياهب السجون أو الى تبوئ مقاعد الاحتجاج في المنافي البعيدة... قال لي صديق عراقي اكتوى بنار التهجير القسري على عهد الرئيس الراحل صدام حسين , انه لامعنى للتداول السلمي على السلطة بمنطقتنا , فالحكم ليس الا ملكا عضوضا يتداول عليه بالدبابات والعساكر , ومن أراد أن يفكر في السلطة وقضايا الاصلاح بمفهومه الجذري فهو أمام اكراهات المشروعات الانقلابية , التي من الممكن أن تقود صاحبها الى اعتلاء سدة العرش أو الى التفكير في مصير الجنرال أوفقير وتجربة سجن تازمامارت...! تذكرت تلك الطالبة الألمانية التي تعرفت عليها أيام ترددي على مكتبة المعهد الأعلى للدراسات المتخصصة بمدينة فيسبادن.., وشاءت الأقدار أن نلتقي بعيد سنوات قليلة فتوجهت لها بالسؤال عن وجهتها في تلكم اللحظات , فأخبرتني بأنها ستتوجه الى قبة البرلمان بعد أن أصبحت عضوا برلمانيا عن مقاطعة هيسن ...! في السنة الماضية أشرفت ولمدة خمسة أشهر على ادارة شأن جناح بمدينة ترفيهية ألمانية , وقد تحملت مسؤولية الاشراف على مجموعة من الطلاب الألمان والتشيك والبولونيين واخرين من أصول أمريكية لاتينية ... كانت احدى العاملات تحت اشرافي فتاة تشيكية شغلت منصب الناطق الرسمي باسم الطلاب التشيك لدى دوائر أوروبية.., وقد تحينت الفرصة من أجل الاقتراب منها ومن ثمة فهم حقيقة الوعي السياسي لدى الشرائح الطلابية ببعض بلدان الاتحاد الأوروبي.. الخلاصة التي انتهيت اليها أكدت لي وللمرة الألف أننا أمام نكسة عربية حقيقية , فهؤلاء الذين تحادثت معهم واقتربت منهم وتقاسمت معهم أعباء العمل طيلة أشهر , كانوا لايتفوقون علينا في شيء .., بل انهم كانوا يسرون لي بهذا طيلة ساعات العمل وكانوا يعتزون باشرافي عليهم في واجبات مهنية ... المشكلة أننا في منطقة موبوءة بالاجهاض والاخصاء الفكري والسياسي لكل الأحرار والمبدعين .., في حين أن أولئك كانوا محظوظين بنشأتهم وترعرعهم في منطقة تؤمن باحترام ارادة وكرامة شعوبها ... جاءني أحد زملائي الألمان الذين تحملت مسؤولية الاشراف عليهم وقد كان شابا ألمانيا على خلق عظيم , فأخبرني بأنه استضاف في جناح اخر من المعرض السيد "رونالد كوخ" رئيس وزراء هيسن وأحد أبرز قيادات الاتحاد الديمقراطي المسيحي , وقد جلس السيد "كوخ" كبقية المواطنين الألمان في مقعد بأحد مطاعم المدينة الترفيهية وطلب قطعا من اللحم المشوي ثم مشروبا ليس أكثر..! استأذنت من زملائي في العمل واغتنمت فرصة استراحة الظهيرة وتوجهت الى نقطة وقوف السيد رئيس الوزراء الألماني واقتربت منه مسافة مترين وتناولت لمجتي كالعادة , انشغل هو بالادلاء بتصريحات لبعض وسائل الاعلام الألمانية في تواضع جم , وراقبت المشهد عن كثب متحسرا على حال السياسة والسياسيين في بلاد مساحتها أكبر من مساحة أوربا وسكانها أكثر تعدادا من سكان الولاياتالمتحدةالأمريكية... بعض من صفحات سجل سياسي أحببت أن أطلع القارئ عليها , عسانا نفهم سر تفوق أوربا والغرب وتخلف المنطقة على أصعدة شتى أبرزها صعيد التنمية السياسية واستتباعاتها في شؤون العلم والتقانة والادارة والاقتصاد وقضايا الصحة والتعليم ... كيف يمكن لشعوب وأمم أن تتقدم وتنهض في أجواء الخوف والترهيب ؟!, والدليل أن كل من زار ألمانيا الديمقراطية أي الجزء الشرقي منها قبل سنة 1989 يدرك ماأحدثه التسلط وترهيب الألمان فيها من خراب .., أما بعد سقوط جدار برلين وعودة النصف الشرقي الى النظام الفيديرالي, فان عشر سنوات كانت كفيلة بتطوير البنى التحتية ونظام الخدمات الى نسبة 80 بالمائة مما بلغه الجزء الغربي من مؤشرات نهضة ونمو...! ليست المشكلة عربيا واسلاميا حينئذ في نقص الموارد والطاقات البشرية , وانما في طبائع الاستبداد التي تخيم على المنطقة .., وفي تقديري الدقيق فان مصادرة الحرية ومعاملة الناس على أساس من اقصاء الكفاءة والأمانة والكرامة في تولية المسؤوليات هو السبب فيما نعانيه اليوم من اذلال ... الاشكال الذي نعانيه اليوم ليس ظاهرة سلطوية فقط , وانما هو ظاهرة عربية واسلامية تكتسح حتى فضاءات المجتمع المدني , حيث يكون الولاء للزعيم والقائد والحزب , والتصفيق للتأبيد والموجود هو بطاقة العبور نحو أعلى المراتب والمسؤوليات ..بقطع النظر عن عنصري الاقتدار والابداع والموهبة والمعرفة... فضاؤنا السياسي هو واجهة مكشوفة لتخلفنا على صعيد احترام الكرامة الوطنية , واعلامنا هو بوق لمن يدفع أو يمول أو يقدس سره ونجواه .., واقتصادنا هو الأمتن والأفضل عربيا وأحيانا متوسطيا برغم ماينخره من اثراء فاحش على حساب الغير والفساد ..., وتعليمنا هو الأرقى والأفضل برغم عجز عربي جماعي عن انشاء جامعات تقنية وعلمية تبحث اشكالات التصنيع للطائرات والأقمار الصناعية وبرامج غزو الفضاء وعلوم المحركات النفاثة وغيرها من صناعات الشرائح الالكترونية الدقيقة ووووووو... ليس جلدا للذات أن أكتب اليوم ماكتبت , ولكن أردت أن أسوق للقارئ أسباب نهضتهم وأسباب تخلفنا الأممي .., فنحن أمة بصريح الاية القرانية "خير أمة أخرجت للناس" .., ولكننا اليوم أسوأ أمة يستهان بها وبكرامة مواطنيها ..: أمة تخضع أجزاء منها للاحتلال وأجزاء أخرى منها لاشكالات اللحية والسواك والهندام الأبيض ...وأخرى تغط في اشكالات منشور 108 وفتوحاته العظيمة على الحداثة والحداثيين ...! لابد بعبارة أخرى وبلفظ الفقيه والعلامة محمد الغزالي رحمه الله , من اعادة تشكيل العقل العربي والاسلامي بما يعيد للحرية مكانتها وللكرامة موقعها وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكانهما السليم والصحيح ... دمتم في رعاية الله ...
كتب بتاريخ 25 جويلية 2009 *كاتب واعلامي تونسي مقيم بألمانيا للاتصال بالكاتب