: سؤال طالما طرحه الساسة والمفكرون على النفس في ظل اكتواء بعض المجتمعات بنار الحكم الفردي والأنظمة الشمولية : الى أي مدى يمكن أن تسود الأنظمة الديمقراطية ؟ وهل يمكن للديمقراطيات الغربية أن تتنكر لقيم الحداثة السياسية وتشهد خطوات رجعية باتجاه احياء الايديولوجيات القهرية ؟ هل نتوقع تطور العالم باتجاه الديمقراطية وتحديث الأنظمة السياسية ومأسستها والزامها سلطة القانون , أم نتوقع تهاوي بعض الديمقراطيات وتحولها الى أنظمة شبه انكشارية ؟ أسئلة هامة طرحت على العقل البشري بعد تراجع معقل الليبرالية العالمية عن الالتزام بالمواثيق والعهود الدولية الملزمة في مجال حقوق الانسان والحريات الفردية والجماعية .., اذ كانت أحداث سبتمبر المشؤومة بمثابة ناقوس خطر دق في بلاد طالما افتخر قادتها ومؤسسوها بتمثال الحرية ورموزه الدالة على الكرامة والمساواة وانهاء حقب مرة من العبودية.. اشكال خطير وقديم كان قد طرحه في سبق نظري وحتى عملي أحد أساتذة الثانويات بولاية كاليفورنيا الأمريكية سنة 1967 , حين اهتدى المدرس " رون جونز " الى فكرة شرح بعض ايديولوجيات بداية القرن المنصرم عبر تبنيها العملي داخل حدود المدرسة مدة خمسة ايام .. تحولت حينها النازية والفاشية من مشروع سياسي وايديولوجي مقبور الى مشروع تبناه التلاميذ في شكل محاكاة لأيام معدودات , ثم سرعان ماتطورت الأمور الى تجربة عملية انتقلت الى خارج جدران المدرسة حين اكتوى بنارها العنفي عناصر شرطة أمريكيين .. اضطر المدرس الى ايقاف التجربة عاجلا , لكن النهاية لم تكن كما أراد لها حين رفض أحد التلاميذ الانصياع لأوامر أستاذه وأصر على متابعة التجربة من فرط اعجابه بها .. الاختبار المدرسي انتهى باحتجازه للطلاب وللمدرس ثم بانتحاره كمدا على العودة الى الحياة الطبيعية في ظل سيادة الديمقراطية والقانون ! .. الفكرة والاختبار يتحولان الى فلم ألماني : استطاع المخرج الألماني "دينيس جانسل" في شريطه المعنون ب"الموجة" تحويل قصة الاختبار الى مشروع حقيقي لفلم ألماني انطلق من فكرة رون جونز ليضعها في محيط تمثيلي بمدرسة ألمانية .. الفلم الألماني الذي شرعت دور السينما الأوروبية في عرضه منذ أشهر استطاع أن يلفت الانتباه الى مخاطر الفراغ والفردانية والتفكك الاجتماعي على الانظمة الديمقراطية , اذ أن هذه العناصر تبدو في قراءة لخلفية سيناريو الفلم جسورا حاملة لمخاطر الايديولوجيا القاتلة .. ويروي الناقد السينمائي معاذ محمود تفاصيل الفلم الألماني ملخصة كما يلي : تقرر إدارة مدرسة ألمانية تنظيم أسبوع خاص لتعريف الطلبة على الأيديولوجيات المعاصرة المختلفة، فيتم تقسيم الطلبة إلى مجموعات ويركز الفيلم على المجموعة التي تتخصص في النظام الأوتوقراطي الاستبدادي. يبدأ المدرس في شرح آليات نظم الحكم الأوتوقراطية وأهم المبادئ التي ترتكز عليها، وأمام التفاعل الكبير من قبل الطلبة وأسئلتهم الشغوفة حول الموضوع، يقرر المدرس أن يطبق نموذجا عمليا يمكن الطلبة من فهم الأوتوقراطية بشكل أفضل، فيبدأ في محاولة فرض الطاعة والانضباط على الطلبة, فالتأخير عن الصف والمحادثات الجانبية غير مسموح بهما والكلام لا يكون إلا بعد طلب الإذن ... محاكاة خطرة : ويشرح الناقد معاذ محمود خطورة مسار هذه المحاكاة فيقول : يبدأ نموذج المحاكاة في اتخاذ منحى أكثر جدية، فيتم فرض زي موحد على أفراد المجموعة، كما يختار الطلبة "الموجة" كرمز لهم لأن الموجة "تكسح وتزيل كل ما يعترض طريقها". كما تبدأ المجموعة في اضطهاد الأعضاء الذين يعترضون على النظام الاستبدادي الذي يفرضه المدرس وعلى الفكر الفاشي الذي تتجه إليه المجموعة. وتزداد حماسة الطلبة للمشروع تدريجيا، فتتحول المجموعة إلى عصبية أو ما يشبه الطائفة الدينية ويأخذ أعضاؤها في الدفاع عن بعضهم البعض ضد اعتداءات المجموعات الأخرى كالفوضويين والهيبيز. ثم ما تلبث أن تنتقل العصابة الجديدة إلى المنطق الهجومي، فينتشر أعضاؤها ليلا في المدينة ليطبعوا شعاراتهم في كل مكان لإعلان ولادة هذه الجماعة، كما يتم استقطاب أعضاء جدد في المدرسة، وتختار الجماعة تحية غريبة على غرار التحية النازية، ويمنع أشبال المجموعة باقي طلبة المدرسة من الدخول إلى المبنى دون أداء التحية. ويبرع المخرج بحسب نفس الناقد السينمائي في إظهار الأثر الكاسح للأيديولوجيا والكاريزما الشخصية ومدى قدرتهما على تغيير القناعات والطباع حين تستحوذ على الفرد. فشخصيات أعضاء المجموعة وأفكارهم تتغير بشكل جذري خلال فترة التجربة القصيرة التي لا تتجاوز أسبوعا، فنرى أحد الطلبة يتخلى عن حبيبته بسبب معارضتها للتجربة بل يصل به الأمر إلى الاعتداء عليها بالضرب حين تقوم بطباعة منشورات مناهضة للتجربة... كما تشكل هذه التجربة نقطة تحول في حياة عضو آخر مضطرب نفسيا طالما عانى من التهميش وسخرية الآخرين، فقد وجد هذا الشاب في "الموجة" عائلة له بعد أن قاسى طويلا من الوحدة، وعصبية تحميه من اعتداءات باقي الطلبة، فيتحمس للجماعة ويذوب فيها بشكل كلي لأنها هي التي أعطت لحياته معنى على حد قوله، فيقوم بحرق كل ملابسه القديمة ويستبدلها بالزي الموحد للموجة، كما يبدأ في معاملة المدرس، القائد الكاريزمي الملهم للمجموعة، بقداسة عجيبة وكأنه نبي أو إله، فيقرر أن يهجر بيته لكي يتبع القائد كظله حيثما ذهب لحمايته من "المؤامرات التي تحاك ضده". وحينما يبدي المدرس انزعاجه من هذا السلوك ويطرده من بيته، يبيت الفتى في العراء أمام المنزل لحراسته من أي اعتداء محتمل ...! المدرس في مواجهة السلطة المطلقة : هذا التغير النفسي والسلوكي لم يقتصر فقط على الطلاب، بل انسحب على المدرس نفسه، فالطاعة العمياء التي يبديها له أعضاء المجموعة ومذاق السلطة المطلقة التي أصبحت في متناوله جعلته أكثر صرامة واستبدادا حتى خارج نطاق نموذج المحاكاة، وهو ما دفع زوجته إلى هجرانه لأنها لم تعد تتحمل ما آلت إليه طباعه. غير أن الأمور ما تلبث أن تتعقد أكثر وتأخذ منحا عنيفا، فتتحول مباراة رياضية ودية بين المدرسة التي يدور فيها نموذج المحاكاة ومدرسة ضيفة إلى معركة عنيفة بين الفريقين. ويدرك المدرس أن التجربة خرجت عن السيطرة ولابد من إيقافها قبل أن تتسبب في وقوع كارثة، فيجمع أعضاء الموجة كلهم ليعلمهم بانتهاء نموذج محاكاة النظم الديكتاتورية التي خبروا بأنفسهم مساوئها، غير أن هذا النبأ يصيب الطلبة بالإحباط، وينهار الطالب المختل الذي أصبح لا يتخيل حياته بدون الموجة، فيحتجز كل من في المدرج ويهدد بأن يقتل المدرس بالمسدس الذي يحمله ما لم يعلن تراجعه عن حل المجموعة لينتهي الفيلم بانتحار الشاب وإيقاف المدرس . الموجة كاختبار : ويبدو فلم الموجة في رسالته تحديا حقيقيا للمجتمعات الانسانية , التي طالما حلمت بالجمهورية الفاضلة أو لنقل بنظم ديمقراطية تتيح للشعوب مساحات معتبرة من العدل والكرامة والحرية .., واذا كانت النخب العالمية تميل الى اعتبار الأمية والجهل سببان رئيسان لتفشي الديكتاتورية ومسرحياتها الواقعية , ومن ثمة استئساد نخب التسلط والاستبداد .., فان الموجة كشريط سينمائي هام يطرح علامات استفهام كثيرة على قدرة الديمقراطيات الغربية على الصمود والاستمرار في ظل تفشي قيم الفردانية وتفكك العلاقات الاجتماعية السوية وسواد حالة الفراغ الفكري والسياسي والأخلاقي لدى الكثير من الشرائح الشبابية في مجتمعات مابعد الحداثة بأوربا وأمريكا والقارة الأسترالية ... الموجة شريط حين تشاهده في عجالة يبدو لك قطعة سينمائية من صناعات الماضي البائد , غير أن المتأمل في خفايا وخلفيات مايطرحه من اسئلة وقضايا , يجد نفسه أمام اشكالات العقل الغربي الذي يبدع كثيرا في طرح الأسئلة كما يبدع في تحويلها الى قطع فنية , تخرج من أفئدة الكتابة لتتحول الى صناعة فكرية وفنية تدر على جيوب وعقول وواقع مجتمعات أصحابها كثيرا وكثيرا من الربح..