عندما نستمع نحن جيل الشباب التونسي إلى روايات من يكبرنا سنّا خصوصا من عايشوا فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة بكلّ تفاصيلها ، وقمنا بمقارنتها بما يجري اليوم في البلاد عشية الانتخابات الرئاسية والتشريعية فإننا لن نجد من تعبير يعكس ما تعيشه تونس اليوم بأفضل من المقولة المعروفة " ما أشبه اليوم بالأمس ". تذرّع الزعيم بورقيبة بمحاولة انقلابيّة فاشلة ليحظر آخر حزب معارض معترف به آنذاك وهو الحزب الشّيوعي التّونسي" وليكمّم آخر صحيفة معارضة مستقلّة وهي "منبر التقدّم" بدعوى أن وجود تلك الأصوات المعارضة التي تنتقده هي احد الأسباب التي دفعت للتفكير في الانقلاب عليه. لم يقف الأمر عند ذلك الحدّ ، إذ تتالت الإجراءات التعسفية التي عكست تفرّدا بالرأي و عقلية أمنية ضيقة للغاية لا تروم الآخر المختلف وهي غير مستعدة أصلا بالاعتراف به .وساد آنذاك الحزب الواحد و الصوت الواحد واللون الواحد. وألحقت منظّمات المجتمع المدني الجماهيريّة حينها – على قلتها- قسرا بأجهزة الحزب الحاكم على غرار الاتحاد العام التّونسي للشّغل والاتحاد العام لطلبة تونس واتحاد الصناعة و التجارة و الاتحاد النسائيّ وغيرهم ، وتمّ ذلك تحت شعار ما يسمى "الوحدة القوميّة" اثر عقد مؤتمر "المصير" للحزب الحاكم ببنزرت في العام 1964 ، حينئذ تحوّلت الانتخابات الرّئاسيّة والتّشريعيّة في ذات العام (64) إلى مجرّد تزكية لمرشّحي الحزب الواحد الذي اصطفّ إلى جانبه الجميع :الوزراء والإدارة والولاة و المعتمدون و العُمد والمؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة والقضائيّة في تماه يندُر وجوده حتى في بعض الأنظمة المستبدّة آنذاك في أوروبا الشرقية . بالنتيجة ، انتصب في تونس عصرئذ حكم فرديّ يمسكه شخص واحد تمكّن من تفصيل الدستور على مقاسه ومُنح بموجبه صلاحيات غير محدودة وبلا رقيب أو حسيب ، ومن أبرز أوجه هذا الحكم الفرديّ ، المسك بالسّلط الثلاث التنفيذية و التشريعية والقضائية بيد واحدة ، باختصار كانت 1964 سنة عجفاء بالمعايير السياسية و الديمقراطية. لا يختلف الوضع في تونس 2009 عن مثيله في 1964 إلا في التفاصيل والديكور والتزويق الذي أشرفت عليه أيادي نشهد لها بالبراعة والحنكة . إذ يستعدّ التجمع الدستوري الديمقراطي للاحتفال بفوز مرشّحيه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية ، ويخال المُتجول في شوارع العاصمة التونسيّة ومُدنها أنّ الانتخابات أنجزت بالفعل و أن التجمّعيين يحتفلون بفوز مرشّح الحزب الحاكم بدورة رئاسية خامسة ، فالمشهد يوحي بالاحتفال و لا يوحي بالتنافس مع غياب المناظرات والدعاية للبرامج والسجالات والحراك الفكري والسياسي والنقاشات عبر الإعلام و الفضاء العام ، وهي منابر تحولت جميعها إلى مقرات للحزب الحاكم ومن والاهُ من أحزاب ديكورية، للهتاف والتسبيح بحمد المُنجزات والمُعجزات. جنّبتنا صحيفة حكومية الخوض في التفاصيل عندما عنونت مقالا لها عن دلالات المساندة الواسعة لمرشح الحزب الحاكم من طرف المنظمات والجمعيات والأحزاب التي تقول إنها مستقلّة بعنوان معبّر للغاية " التنوع من اجل الشمولية". وعلى الرغم من أنّ الصحيفة ترى أنّ قوة تلك المنظمات والجمعيات تكمن في تنوعها و"شموليتها" لمختلف الشرائح المهنية والاجتماعية ، وأنّ مساندتها لمرشح الحزب الحاكم هي "تعبير عما يجيش في قلوب التونسيين تجاه خيارات الحاضر و المستقبل" على حدّ تعبيرها. إلا أنّه من غير الممكن للصحافة التونسية غير المستقلة أن تعطي الصورة كاملة غير منقوصة لقرّائها، فهي تتحدّث عن "الإجماع" و لا تكشف لقرائها أن ذلك "الإجماع" هو ذاته جواز السفر الوحيد لوجود تلك المنظمات والجمعيات والأحزاب. ولا يمكن للصحافة غير المستقلة أن تكشف حقيقة أن "حزب الإجماع" ما كان له ليحكم لو لا تستّره المخجل بأجهزة الدولة ورفضه للمنافسة النزيهة وهو صاحب المليوني منخرط ونيف. سيستند حزب "التجمع" خلال أيام قليلة على أكتاف الدولة وسيعلن فوزه المبين على المعارضة "الضعيفة"، لكنّ ذلك لن يشكل فخرا له ، لا في نظر التونسيين ولا من جهة الرأي العام الدولي ، فغياب المنافسين الجديّين أو تحجيم حضورهم التنافسيّ ، هو أكبر ضربة لنظام سياسي يحاول تجديد شكله الخارجيّ ومحافظا على مضمونه الذي تجاوزه الزّمن ، وتجاوزته آمال التونسيين في حياة سياسية عصرية ومتطوّرة تليق بتقدّم وعيهم ولا تعبث بذكائهم و لا تضحك على ذقونهم كما يحدث في انتخابات اليوم. قد نجد تبريرات لتخفي الحزب الحاكم في 1964 وراء أجهزة الدولة ليحكم بقبضة من حديد ، لكننا نعجز عن إيجاد مبرّرات له اليوم في عصر انهارت فيه الحدود وأضحت فيه مطالب الإصلاح السياسي والديمقراطية والاحتكام للشعب شعارات تطلقها حتى الأحزاب التي حكمت منذ سنوات خلت بالحديد و النار لكنها تراجعت و تخلّت عن ذلك الخيار السياسيّ لعقمه وتساقط جدواه في يوم الناس هذا. سنترك للحزب الحاكم بكلّ تأكيد مهمة تفسير انهيار الثقة بين الشعب والدولة وفقدان التونسيين العازفين عن العمل السياسي الأمل في تطوير نظامهم السياسي ولجوء الشباب إلى حلول غير محمودة العواقب ليعبّر عن رفضه لواقعه الرديء القائم على الانغلاق السياسي و تكميم الأفواه التي اشتاقت للتعبير بحريّة وتاقت لاختيار من يحكمها بلا وصاية أو إقصاء. ولعلّ نسب المشاركة في انتخابات الخامس والعشرين من الشهر الجاري ستكون خير دليل على ما نقول...هذا إن لم تزوّر ..فمن يدري؟ الموقف - العدد 516 بتاريخ 9 أكتوبر 2009