عقب عمليات الحادي عشر من سبتمبر، خاضت الدبلوماسية السعودية، معركة شديدة التعقيد، في أروقة صنع القرار بواشنطن. فلقد كان هناك، من حاول طرق الحديد الملتهب، بتحميل النظام السعودي، مسؤولية ما جرى، حتى بلغ التحريض آنذاك حدودا غير مسبوقة، تمثلت برسم علامات استفهام حول كل ما هو سعودي، بدءًا من مناهج التعليم وليس انتهاء بتسليط الأضواء على الدعم السعودي السخي للحركات المقاومة للاحتلال وفي مقدمتها «الفلسطينية». ولقد نجحت السعودية، في إخماد نار التحريض، على الرغم من قوة نفوذ مشعليها، ولم يتم ذلك، بفعل عمل دعائي ينفي تهمة خطرة، وإنما بالقدرة على تجسيد أهمية العربية السعودية ككيان إقليمي، يحتل موقعا رئيسيا في معادلة الاستقرار الشرق أوسطي والدولي. وفي الوقت الذي كانت فيه الدبلوماسية، تطفي الحرائق في واشنطن، كان الأمن السعودي، يواجه تحديات في منتهى الخطورة، تجسد في العديد من العمليات التفجيرية، حيث ظهر المشهد السعودي ولأول مرة، ربما بهذا القدر، كمسرح لحرب جدية تستهدف أغلى ما تملك هذه الدولة الكبرى، وهو الاستقرار والتوازن في أداء المهام الملقاة على عاتقها، كمرجعية معنوية للأمة الإسلامية، وحجر زاوية في البناء السياسي العربي المعاصر وأمنه القومي. ولقد عبرت المملكة، ومن خلال دبلوماسية هادئة ومدروسة وفعالة مضائق كثيرة، دون أن تقدم تنازلات تذكر على صعيد إدارتها الخاصة لشؤونها كدولة إسلامية، ودون أن تدير ظهرها لالتزاماتها الكبرى تجاه أمتها وبيتها العربي. وفي مسيرتها، لم تكن العربية السعودية بمنأى عن الضغوط القوية.. تلك الضغوط التي هدفت إلى فك ارتباطها بالقضايا العربية، الصعبة والشائكة، وإرغامها على الانطواء داخل حدودها ومصالحها الخاصة. وحين يجري الحديث عن الضغط.. تنهض في الذاكرة مواقف المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز، الذي أطلق عليه الفلسطينيون، وعلى لسان زعيمهم ياسر عرفات، لقب شهيد القدس، حيث كان رئيس أحد أهم دول العالم ينام ويصحو.. على أمنية أن يؤدي ولو ركعة واحدة في المسجد الأقصى. السعودية وفلسطين دون الخوض في أعماق التاريخ، وقراءة وقائعه منذ تأسيس المملكة، فإن خلاصة أحداث ووقائع الزمن الطويل، توصلنا إلى خلاصة تستحق التوقف أمامها.. وهي أن محبة واحترام المملكة، كانا وما زالا محل إجماع فلسطيني. وحين عبرت غمامة سوداء في سماء العلاقات الفلسطينية السعودية أيام الغزو العراقي لدولة الكويت، ظهرت الحكمة السعودية في التعامل مع الفلسطينيين في ظل أزمة، لم يبعد فلسطيني واحد عن المملكة، ولم تتهدد مصالح مئات الألوف من الفلسطينيين المقيمين على أرضها، وفي أقرب مدى زمني ظهر التسامح السعودي بأعمق تجلياته، حتى ان بعض دول الخليج لامت السعودية على تدليلها للفلسطينيين، الذين أخطأت قيادتهم تقدير الموقف في تلك الأزمة السوداء.. لم تأخذ القيادة السعودية بيد الفلسطينيين لإخراجهم من أزمة غزو الكويت فحسب، بل انها عملت وبذكاء ملحوظ.. على وضع القضية الفلسطينية على رأس جدول أعمال الاهتمام الدولي.. ولم تتوان عن الإعلان صراحة بمسؤولية عالية عن أن جذر الأزمات في عالمنا العربي، هو استمرار القضية الفلسطينية دون حل، وكان لهذا الموقف وفي حينه، أبلغ الأثر في تجاوز الأزمة وتحريك الأمور نحو محاولة جدية للحل. ومنذ بداية العملية السلمية، وفي كل مراحل المد والجزر وحتى يومنا هذا، كانت المملكة هي الأكثر استقرارا في رعاية الموقف الفلسطيني ودعمه بكل الوسائل. وقد يتساءل البعض، لماذا اكتب في هذا الأمر، والآن بالذات.. للحق.. فإن هناك دافعين لذلك، الأول أخلاقي حيث أرى أن الوقت مناسب لإظهار بعض الوفاء لدولة وشعب وقيادة ما بخلوا في تقديم الدعم لنا، وما تراجعوا عن التزامهم بنا وبحقوقنا.. والثاني.. لإبداء رأي موضوعي، في عاصفة أثيرت حول الموقف السعودي الأخير من الأحداث المأساوية الجارية على أرض لبنان. وهنا.. فإن التحليل الموضوعي لهذا الموقف، يتطلب الابتعاد كثيرا، عن دوامة الاعلام الغرائزي الصاخب، الذي يذهب بالاتهام الى حدوده القصوى دون نقاش، وعلى نحو يلغي مساحة الاجتهاد وإبداء الرأي في زمن نحن أحوج فيه الى التفكير بصوت مرتفع.. أنا لم أفهم، أن هنالك موقفا سعوديا سلبيا من حق الشعب اللبناني والفلسطيني بالمقاومة، فللسعودية مواقف مشهودة في الدعم والتبني.. ولها شهادات من الفلسطينيين واللبنانيين في هذا المجال.. على نحو يستبعد مجرد الجدل أو الشبهة حول المواقف والسياسات. إلا أنني قرأت.. دعوة سعودية صريحة لترشيد اتخاذ قرارات مهمة.. ودراستها من حيث التوقيت، وحساب القدرة والفعل ورد الفعل.. وهذا الأمر يبدو بديهيا لدى أي صانع قرار أو مبادر لقرار، ولا أرى ان الموقف السعودي يخرج عن حيثيات ومنطق الموقف السوري مثلا، ذلك الموقف الذي يحسب الف حساب للتوقيت والفعل ورد الفعل وليس سوى اشقائنا السوريين. من ادخلوا الى معجم المصطلحات السياسية الشرق أوسطية عبارة نحن نملك حق اختيار الزمن والمكان المناسب للمعركة. ذلك أن الحرب حين تعني أول ما تعني احتمالات أكيدة للدمار والموت.. فإن الحسابات هنا، والتشاور مع المتضررين المحتملين، وخاصة مع من نسعى للحصول على دعمهم، يبدو أمرا بديهيا، يرقى الى مستوى الشرط الحاسم لاتخاذ القرار من عدمه. لقد احترمت الرد الهادئ على هذا الموقف من قبل اكثر الأطراف توغلا في الأحداث الجارية الآن على الساحة اللبنانية، دون أن ننسى أن من حق السعودية، ولربما اكثر من غيرها أن تقول رأيا فيما يجري، ذلك أن السعودية ليست مجرد دولة تقدم الدعم لشقيق أصغر، بل انها شريك إيجابي للبنان بكل أطيافه وطوائفه، وليس مجرد تشابه في الحروف اعتبار الطائف منعطفا تاريخيا في حياة لبنان. لقد قيل الكثير عن الموقف السعودي الأخير، واستعملت عبارة توفير غطاء لإسرائيل كي تواصل عملياتها، إن في هذا القول ظلم صارخ ليس للسعودية وموقفها، وانما للمنطق، فإسرائيل لا تحتاج لغطاء حتى توسع دائرة عدوانها على نحو يخدم برامجها المحفوظة عن ظهر قلب، غير اننا لا نجافي الحقيقة لو قلنا.. ان هذا العدوان كان بحاجة لذريعة، وأظن ان حزب الله وصف موضوع تخليص الأسيرين بالذريعة . واذا ما انتقلنا من الدائرة اللبنانية، لنعود مجددا الى الدائرة الفلسطينية، فإننا نقرأ الموقف السعودي كما ينبغي ان يقرأ.. فهو مؤيد للمقاومة ما دام هناك احتلال وهو يدين العدوان على فلسطين ولبنان، حتى لو قدم ملاحظات على الدوافع والذرائع والتوقيت والحسابات. وللحق.. فليس من مصلحة اي طرف يواجه الآن هذا العمل العسكري الاسرائيلي الغاشم والمتصاعد، ان يشتري خلافا مع أحد، أو أن يطور هذا الخلاف من ملاحظات نرضى عنها او لا ترضى الى ادانة واتهام.. وكأن التاريخ وليد الليلة، والمواقف والمآثر محيت لمجرد كلمة قيلت ولم تعجبنا!! اني مثل كل الفلسطينيين اتمزق حزنا وأسى على ما يحدث للبنان وطنا وشعبا، وافهم واتفهم نبرات الحزن التي تميز بها خطاب رجل الدولة القدير فؤاد السنيورة، والتي ذكرتني بخطاب المرحوم شفيق الوازن أمام قصر بعبدا في اجتياح العام 82 الذي اختتمه بكلمة كفى.. حين بلغ القصف الاسرائيلي لبيروت حد الاقتراب من التدمير المنهجي الشامل. اني مثل كل الفلسطينيين، اتابع ما يجري في لبنان، لحظة بلحظة، فعلى ارض هذا البلد المميز والجميل والعظيم والمبدع يعيش مئات الألوف من الفلسطينيين، واضعافهم من العرب، ويعيش اللبنانيون اكثر شعوب الأمة عطاء للأمة وقضاياها المصيرية. اننا نخاف على لبنان، ليس لأنه حاضنة ذكرياتنا في مراحل البناء الاولى.. ولا لأنه يحارب بأقل الامكانيات اعتى القوى.. بل لأنه.. جزيرة خضراء في صحراء قاحلة، لأنه ماسة لامعة في ظلام دامس، لأنه البحر والشاطئ والجبل والسهل والسماء الذي غنته فيروز وغنيناه معها من المحيط الى المحيط. ولأنه.. طائر الفينيق.. الذي كلما اوسعناه موتا، انتفض حيا.. ان لبنان الذي يحترق الآن.. يستحق كلمة حق، حتى لو لم تكن لدى الكثيرين منا جرأة ان يقولوها. * نقلا عن صحيفة " الشرق الأوسط " اللندنية