تودع النخبة المغاربية العاملة في الخارج 200 مليار دولار في البنوك الأجنبية ذلك ما كشف عنه الصحافي السابق والباحث الحالي في مركز الدراسات الدولية في برشلونة فرانسيس غيلاس. واقترح غيلاس توظيف 5 في المئة فقط من تلك الودائع الخاصة لبناء وحدة المغرب العربي في أفق 2030. فهذه الأموال المتنقلة بين أميركا الشمالية وأوروبا الغربية والخليج يمكن استخدامها في تكريس التكامل الأفقي بين ثلاثة بلدان هي المغرب والجزائروتونس بحسب غيلاس. وكان غيلاس المنحدر من أصول جزائرية، يعرض في لقاء استضافته أخيرا المدرسة العليا للأعمال في العاصمة الجزائر، نتائج بحث جديد شارك باحثون عرب وأوروبيون في إعداده. ويقيم حاليا 13 ألف جزائري في أميركا طبقا للوائح المسجلين في السفارة الجزائرية في الولاياتالمتحدة، من ضمنهم أكثر من 1200 باحث. المغرب وتونس ومن المغرب وتونس يتحول أيضا آلاف الباحثين الشباب وطلاب الهندسة والعلوم الذين تفتح لهم الجامعات الأوروبية والأميركية أذرعها، ليتابعوا دراساتهم العليا في جامعاتها ومراكز أبحاثها، غير أن قلة منهم تعود إلى الوطن. وفي حين تمتنع البلدان المستقبلة عن منح تأشيرات الدخول للعمال وتتحرى كثيرا مع السياح لقطع الطريق أمام الهجرة غير الشرعية، نلاحظ أنها تمنح أفراد النخبة حوافز للهجرة لكونهم يُعتبرون كوادر جاهزة للعمل والإنتاج من دون أن تكون أنفقت على تكوينهم أو تعليمهم فلسا واحدا. وقد يعود بعضهم إلى بلده أو منطقته، لكن بصفته مندوبا لشركة متعددة الجنسية أو مؤسسة غربية تسعى للإستفادة من معرفته بخصائص المنطقة العربية. فالفرنسي توفيق السوداني، وهو تونسي الأصل، يعمل مستشارا في التجارة بين أوروبا والمنطقة المغاربية لدى مجموعة "دكسيف" الدولية Dexcif International. وكذلك فعل مواطنه علي بن حمودة الذي يدير مؤسسة خاصة في مجال الطيران في فرنسا، واتجه بن حمودة لإنشاء شركة في تونس التي ولد فيها أبواه، تابعة للشركة الفرنسية الأم. وتنسحب الظاهرة نفسها على العلماء والخبراء الجزائريين في أوروبا، ففي فرنسا شكل عدد من وجوه النخبة المنحدرة من أصول جزائرية "حلقة المقاولين والصناعيين الجزائريين في فرنسا". وقال رئيس اللوبي شريف حاجي ل إن الحلقة التي تأسست في 2001 وتمت هيكلتها في 2005، استطاعت في عدد قليل من السنوات أن تنتشر في التراب الفرنسي وكذلك في الجزائر، وتنشئ جسورا لنقل التكنولوجيا. واستدل على هذا الدور بمساهمتها في إقامة "مدينة الصيانة الصناعية والتكوين المهني" في الجزائر، بالإضافة لإيجاد ذراع تمويلية تساعد رجال الأعمال الشباب على إقامة مشاريعهم. والظاهر أن البلدان المغاربية يئست من استعادة عقولها المهاجرة وباتت تبحث عن وشائج لجعلهم مرتبطين بمواطنهم الأصلية. وكان هذا الخيار هو الفكرة المحورية التي انتهت إليها الندوة الدولية الثانية عن الهجرة والتنمية التي أقامتها أخيرا منظمة العمل الدولية بالتعاون مع وزارة الشؤون الإجتماعية التونسية في مدينة حمامات، بمشاركة خبراء أوروبيين وعربا، والتي حازت هجرة الأدمغة عبر البحر المتوسط على قسم مهم من أعمالها. وتتمثل الفكرة الرئيسية في محاولة العمل في المستقبل على الإستفادة من العقول المغتربة في مبادرات ومشاريع محددة من دون مطالبة تلك العقول بالعودة. وقُدمت إلى الندوة ثلاث دراسات خصوصية عن الجزائروتونس والمغرب، بالإضافة لدراسة تأليفية. ونبه المنسق العام لمشروع "المهاجر المغاربي" صائب موسات من أن المهاجر المغاربي لم يعد ذلك الشخص الذي يسعى في مطلع كل شهر لإرسال مبلغ من المال إلى أسرته، مؤكدا أن حركة الهجرة المغاربية أبصرت تغييرا جوهريا في نسقها وبنيتها. ورأى أن ذلك التغيير شمل أيضا موقفها من بلدها الأصلي ومن بلد الإستقبال، مُقترحا التفكير في صيغ تأخذ في الإعتبار أن العقول المهاجرة لا تخطط للعودة لأنها لا ترغب فيها أصلا. ومن الصيغ التي رأى أنها واقعية الإستثمار في مشاريع في بلدانها الأم، أو إقامة شراكة بين المؤسسات التي تديرها ومؤسسات مماثلة في البلدان التي تنحدر منها. غير أن بيتر شاتزر Peter Schatzer مدير مكتب المنظمة الدولية للهجرة في روما، الذي يغطي 15 بلدا مطلا على حوض المتوسط، قال ل إن على بلدان الضفة الشمالية للمتوسط أن تمول مشاريع تنموية في بلدان الضفة الجنوبية من أجل الرفع من مستوى الحياة والمرافق على نحو يشد السكان إلى مناطقهم ويُشجع المهاجرين على العودة للعيش في بيئة اجتماعية لائقة. سراب العودة لكن حلم العودة هذا يبدو سرابا إذا ما تفحصنا مستوى الإندماج المتقدم الذي باتت عليه العقول المهاجرة من الضفة الجنوبية، والذي لا يخص العرب فقط وإنما الأتراك أيضا. ولوحظ في التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته الأخيرة لفرنسا أنه حذر المهاجرين الأتراك من الذوبان في المجتمعات التي استقبلتهم مع تأكيد قناعته بضرورة الإندماج، ما يعني أنه يؤيد الإنسجام مع المجتمع الذي احتضنهم كي لا يعيشوا في "معازل"، لكنه يرفض الإستيعاب الذي يمحو هويتهم كما قال. ولا شيء يضمن إبعاد شبح الإنصهار وصولا إلى انقطاع الصلات تدريجيا مع البلد الأصلي في الجيل الثاني أو الثالث. فما الذي يؤكد أن الشابةالتونسية ريم مصدق التي حلت اخيرا في جامعة برينستون العريقة في الولاياتالمتحدة، لتعمل في مخبر الجيوفيزياء "Geophysical Fluid Dynamics Laboratory" ، بعدما نالت شهادات متميزة في فرنسا منها الدكتوراة في الفيزياء الأوقيانوسية وعلم المناخ، سيكون في وسعها يوما العودة إلى بلدها والإستقرار فيه؟ وهل ستجد التجهيزات المتاحة والمناخ الأكاديمي المتوافر في الولاياتالمتحدة إذا ما عادت إلى بلدها؟ قالت ريم إنها سعيدة بوجودها في تلك الجامعة وهي بين أساتذة مرموقين مُحاطة بعدد من حاملي "جائزة نوبل"، ولذا فلن يكون بلدها سوى ذكرى جميلة مرتبطة بجلستها على حافة الميناء البونيقي في قرطاج لتتأمل البحر، أو صور أقرانها في معهد ميتوال فيل الذي درست فيه المرحلة الثانوية. والأرجح أن مسار ريم لن يختلف عن المغربية سهام أربيب مديرة الإتصال في مجموعة CFCI Paris الفرنسية ومؤسسة مكتب الإستشارات APIM consulting في بروكسيل، التي دخلت غمار الحياة العملية في فرنسا بعد التخرج، إلا أنها لم تنس بلدها فشاركت في تأسيس نادي Compétence synergie & initiatives المعروف اختصارا بأحرفه الأولى CSI، والذي باشر مساعدة الحاملين للجنسية المزدوجة المغربية الفرنسية على تطوير كفاءاتهم وحثهم على الإستثمار في مشاريع في المغرب. وهناك جمعيتان على الأقل في فرنسا تشكلان جسرا للأكاديميين والخريجين المغاربة عموما كي لا تنقطع صلتهم ببلدهم، الأولى هي Maroc entrepreneurs وتتعهد بإعداد خطط استثمارية في المغرب للخريجين الجدد، أما الثانية فهي جمعية خبراء المعلوماتية المغاربة في فرنسا، المعروفة باسم Aimaf. وتضم هذه الجمعية 640 خبيرا ومهندسا مغربيا في الإعلامية غادروا وطنهم في مطلع الألفية واستطاع جميعهم أن يقيم مشروعه الخاص حاليا في المنطقة الباريسية أو بريطانيا أو في المغرب انطلاقا من مقر مركزي في فرنسا. بهذا المعنى تبدو عودة الأدمغة المغتربة حلما بعيد المنال، لكن القطيعة ليست قدرا محتوما، إذ هناك معابر وجسور كثيرة تسمح بالإستفادة جزئيا من خبرة الطيور المهاجرة. صحيفة القدس الفلسطنية-الثلاثاء مايو 4 2010