: حين تأملت في نداء اللجنة المركزية للتجمع الدستوري الديمقراطي للرئيس بن علي بالترشح لدورة رئاسية جديدة سنة 2014 , تيقنت كما سبق لذلك الظن أن مصير البلاد متجه بلاشك الى نفس تلكم اللحظة التي ترك عليها بورقيبة تونس قبيل رحيله عنوة سنة 1987... طبعا , كل الأجواء كانت توحي أثناء انتخابات أكتوبر 2009 بأن الطبقة الحاكمة باتت أسيرة التحنط والجمود بعد أن أصبح الخوف سيد الجميع ليصبح القوم سيان : حاكم ومحكوم يتباريان في اعلان أشد ألوان "النفاق" تحت يافطة اعلان الولاء أو ماسمي بالوفاء !... كانت اللحظة والأجواء في أكتوبر المنقضي وماسبقه من أشهر وأسابيع تؤكد أننا أمام عملية تمديد أو توريث قاطعة ولكنها غير محسومة الأشخاص والاتجاهات ..., ومن ثمة فقد انطلقت التحليلات والتخمينات مؤكدة وفاة الجمهورية ودخول تونس مرحلة الملكية أو الأميرية غير المعلنة بنص القانون والدستور... سبق لي وأن كتبت عن فضائل بعض الأنظمة الملكية العربية , حين أعفت شعوبها من معارك انتخابية على رأس السلطة وفتحت المجال تشاركيا الى مادون ذلك .., لأذكر أمثلة المغرب الأقصى والأردن والكويت والبحرين وقطر وماليزيا ودولا أخر..., اذ بات وضع هذه البلدان أكثر وضوحا واشراقة في ظل وضوح دستوري جنب شعوبا ونخبا كثيرة الام الانتقال السياسي في أعلى هرم السلطة ... رد البعض انذاك منتقدا النظام السياسي العربي القائم على وراثية الحكم , ليوجه أسهمه للرسمية العربية بمختلف أشكال تنظمها السياسي , ليغفل هؤلاء عن شموع عربية تحاول خوض كفاح الدمقرطة والحريات وحقوق الانسان من خلال أنظمة تتجه ببطئ شديد نحو مسار الملكيات الدستورية ..., أو أخرى تثبت وجودها كجمهوريات من خلال توازن الدولة والمجتمع كما هو حاصل في لبنان هذه الأيام... ولمزيد من الوضوح , فانه لامانع لدي في قيام ملكيات دستورية تتأسس على سلطان القانون والمأسسة واحترام استقلالية السلطات الثلاث , ليكون نموذج بعض الملكيات الأوروبية هدفا ننشده في بعض البلاد العربية .., اذ أن نماذج التاج البريطاني أو المملكة الاسبانية أو المملكة الهولندية أكثر مصداقية واحتراما لارادة شعوبها من أي جمهورية معلنة في منطقتنا العربية... لااعتراض أيضا لدي , ومن زاوية دستورية على أن يكون الحكم جمهوريا على الشاكلة الفرنسية أو الألمانية أو التركية , فمثل هذه الأنظمة تقيدت فعليا بما نصصت عليه دستوريا ولم تتحايل على دساتيرها لتحولها الى خرق بالية..., ومن ثمة كانت سلطة الرئيس أو المستشار سلطة خاضعة للقانون , ولم تتحول صوره الى تماثيل وأصنام مقدسة تملأ شوارع ومتاجر ومؤسسات هذه البلدان ..., فهو شخص مسؤول ينظر اليه بعين الاكبار والاحترام دون تجريد حق المعارضة أو الاعلام أو الجماهير من حقها في توجيه أسهم النقد ... الرئيس أو المستشار في الأنظمة الديمقراطية يجدد له في دورتين أو ثلاث ليس أكثر, وبعد ذلك يتحول الى مواطن عادي أو ذكرى خالدة في تاريخ البلد , ولاتخلده أصنام أو تماثيل حجرية أو صخرية بل تخلده أقلام المؤرخين ورجال الحقبة السياسية الذين عايشوه من خلال خدمته لشعبه أو تفانيه في الدفاع عن الصالح العام للأوطان... عشت منذ 18 سنة بجمهورية ألمانيا الاتحادية , وقد تداول على منصب المستشار وهو المنصب الأهم سياسيا ودستوريا , 3 مستشارين اختارهم الناخب بمنتهى الوعي والارادة , وطلب من اثنين منهم المغادرة دون أن تزهق دماء , أو يسجن قلم واحد , أو يتعدى على مواطن انتقد أداء هلموت كول أو جيرهارد شرودر..., فهؤلاء في حكم القانون مواطنون يتساوون مع عامل النظافة أو حتى العاطل عن العمل .., بل ان أسمى رجالات الدولة لايعلقون صورهم في مكاتبهم أو يتجرؤون على دعوة مؤسسات الدولة أو الجماهير الى تعليق صورهم عملاقة في الملاعب أو الساحات العامة أو أي مكان اخر من تراب الجمهورية الفيديرالية الألمانية... جرب الألمان مساوئ الحكم الفردي واكتووا بناره , وقد دفعوا ثمن ذلك حربين عالميتين وجدارا فولاذيا قسم جمهوريتهم الى شطرين ..., ولكنهم تعلموا الدرس ووعوه وقرروا أن تكون الارادة نافذة حرة للناخب والمواطن .. ليس هناك في ألمانيا أو بلاد أوروبا والغرب مواطن فوق القانون , فابمكانك مقاضاة الوزير أو المستشار أو أي مسؤول اذا تجاوز في استعمال السلطة , أما رجال الشرطة أو ضباطها فيحرصون في الشوارع على التودد لمواطنيهم من خلال تقديم الارشادات أو حتى مشاركتهم الاحتفال حين تنتصر المنتخبات الوطنية في كأس العالم ... هنا في ألمانيا , يسير رجال الشرطة في أوقات الدوام الى جنب المواطن , ليبادلوه الابتسامة والتحية , وليكونوا في خدمته حسب ماتقتضيه الحاجة , فلا رغبة في الشماتة ولاقدرة على اهانة رجل الشارع العادي , بل شعور بأن القضاء يساوي بين الجميع , فلا سلاح يرفع من مقام صاحبه أمام هيبة قضاة مستقلين... المعارضة تعني في القاموس الغربي والديمقراطي ظاهرة صحية وضرورية لاتستقيم دونها حياة سياسية , ولاتسير دونها الدولة الحديثة , بل ان أصحابها ينتشرون في كل حدب وزاوية ولايمكنك أن ترى شرطيا سريا أو بلباس رسمي يقف على رأس معارض يطلب منه اصطحابه للتحقيق أو مؤانسته في جلسة سرية من جلسات تغيير الولاء... أما لدينا في جمهوريات الخرق الدستورية البالية , فالحاكم فوق المحكوم وفوق القانون والدستور , فهو يأمر ولايستشير , وظله مقدس يهابه الجميع ..., يقول للبرد والسلم كونا نارا فتكون...! يتساءل البعض عن أسباب تخلفنا ويعزوها الى تخلف علمي وتقني وربما لدى بعض النخب الايديولوجية الى أسباب فكرية ذات علاقة بالدين .., غير أن جوهر الداء له علاقة أزلية بطبائع الاستبداد التي تهيمن على بعض النخب الحاكمة وتحولها الى أصنام أزلية تحتقر الشعوب وتنهب خيراتها دون حسيب أو رقيب .., ومن ثمة تتحول بعض بلادنا الى ساحة حرب أهلية أو طائفية كما هو حال بعض بلاد العرب والاسلام التي يصبح فيها الأمن المركزي فوق علوم وخبرات د.زويل ود. البرادعي , والحرس الجمهوري فوق الحراك الحوثي أو الجنوبي...وان مثل هؤلاء أكثر من نصف شعب اليمن "السعيد" ! أمثالي من المطالبين بالاصلاح وحكم القانون واحترام حقوق الانسان وتحديث الدولة الوطنية العربية على أساس الديمقراطية وتطوير الفكر واحترام الانسان والهوية , يصبحون في نظر أولئك خونة وبائعين للضمير , ومن ثمة تستصدر في حقهم الأحكام الجائرة حتى يقضوا نصف أعمارهم في المنافي أو السجون , ويحال دونهم ودون تحقيق أسباب النهضة العربية الشاملة ... أما في الغرب فدعاة الاصلاح لأوطانهم , تكرمهم شعوبهم وترفعهمم الى سدة البرلمانات والحكومات , بل ان وسائل الاعلام تحتفي بهم وتقدمهم للجمهور حتى يكونوا عماد نخبة مجددة ... وفي ظل اختلاف المعايير والواقع بين غرب ناهض ومتقدم وان سيطرت عليه تجاذبات اللوبيات أحيانا , وبين شرق تستبد فيه بعض من أنظمة الحكم , تستمر المأساة ويسود النفاق ويعلو صوت هبل ..., لتصبح الأوطان ضيعة يتقاسمها المقربون ويسود فيها نظام التسخير بأساليب حديثة واجهتها أحزاب حاكمة لاتغني ولاتسمن من جوع غير تجديد البيعة والولاء , حتى نتكشف جميعا على كوارث بحجم مانراه في مصر واليمن والباكستان ونيجيريا والعراق والصومال ...وماأطول القائمة حين نطرق باب التاريخ السياسي العربي والاسلامي الحديث , أو نفتح أي شاشة من شاشات العالم... والى أن تستفيق بعض شعوبنا من سباتها العميق , دامت أتراحنا الوطنية وكوابيس مجمعاتنا المدنية ..., ولتسكر بعض نخب الحكم من دمنا المباح !