لاشك ان حروب اليوم غير حروب الأمس من عدة وجوه ، فحروب القرن الواحد والعشرين تختلف اختلافا جوهريا عن حروب القرن التاسع عشر ، كما عن حروب القرن العشرين . حروب اليوم هي حروب سريعة وخاطفة فى اغلب الأحيان ، اي انها تستغرق بضعة ايام ، او بضعة اسابيع ، وان تجاوزت ذلك فانها تعتبر من الحروب الخاسرة حتى وان انتهت بالنصر لاحدى القوى المشاركة فيها . حروب هذا القرن ( الواحد والعشرون ) الميلادى تعتمد على تطور الاختراعات الحربية ، وهي تطورات مذهلة ومنها : الصواريخ ، القنابل الذكية ، والأجدر ان تسمى القنابل المدمرة والوحشية ، الطيران الحربى ، طيران التجسس الذى يصور كل شيء على الأرض ، البوارج الحربية ، الذخائر الفتاكة ، الدبابات بانواعها المختلفة ، ثم الاسلحة الجرثومية والنووية . هذه الأسلحة الحديثة والمتطورة الرهيبة عندما تنزل الى ميدان المعارك تقتل وتحرق وتدمر كل هدف خلال اوقات قصيرة ... وفى اثناء عمليات الدمار والخراب تنزل الى الميدان ايضا القدرات الإعلامية بشرا وتقنية ، فتنقل الى كل العالم بالصورة والصوت والكلمات المكتوبة ، آثار وأعمال الآلة العسكرية ومن يستخدمها ، وتكشف تلك الوسائل الاعلامية الحديثة جرائم الحرب وجرائم صناع قرار تلك الحرب . وبعد ساعات فقط من تناقل صور الأطفال والنساء والرجال والحيوانات والأشجار والمبانى التى طالتها النيران ومزقتها اربا اربا تتفاعل الشعوب ، وخاصة فى البلدان الديمقراطية ، وتبدأ حركة الاحتجاجات : مسيرات ، مقالات ، برقيات ، رسائل ، جمع توقيعات ، وجميعها تضغط من اجل وقف الحرب ، وكلما طالت الحرب ، وزادت الخسائر ، كلما زادت الاحتجاجات على حكومات منتخبة من الشعب . هنا تبرز اهمية رسالة الإعلام وخاصة الفضائيات . ان تطور التقنية الاعلامية قد ساهمت وما تزال فى تقصير زمن الحروب ، وهو انجاز عظيم ، وكلما صاحب تلك التقنية العنصر الأخلاقي الانساني كلما ارتفعت قيمتها وايجابيتها . فى الحروب الكبيرة خلال القرن العشرين قتل عشرات الملايين دون ان يرى الناس ماذا حدث ، وكيف حدث لتلك الملايين ، لأن القدرات الاعلامية كانت محدودة التأثير بسسب ضعفها الفنى ، وبسسب قلة انتشارها . فى مجلة التاريخ الشهرية التى تصدر عن (ال بى بى سى) عدد شهر يونيو لهذا العام 2006 ، نقرأ بحثا طويلا بعنوان ( قرن العنف ، القرن العشرون ) وفيه ارقام رهيبة عن ضحايا العنف وخاصة الحروب ، ففى الحرب الاعلمية الثانية قتل تسعون مليون انسان فى ثمانية وخمسين بلدا، وفى الحرب العالمية الاولى قتل نحو عشرة ملايين انسان . كما قتل ملايين آخرين بسبب الحروب الأهلية والأقليمية فى مناطق كثيرة من العالم .... لكن كل تلك الخسائر والمآسى لم يكن بالامكان رصدها ومتابعتها ونقلها الى الشعوب كما هو الحال اليوم . اذن بالأمس كان يمكن تغطية كوارث تلك الحرب لأن العيون لا تراها ، اما الآن فى القرن الواحد والعشرين فانه من المستحيل ان تحجب كل المعلومات وان حجبت بعض المعلومات ، ومهما حاولت اطراف الصراع ان تخفى الحقيقة ، او ان تنقص منها ، فانها ستظل عاجزة عن اخفاء كل الحقيقة . فالتنافس فى سوق الاعلام اصبح من مميزات هذا العصر ، وصارت المخاطرة والمغامرة الاعلامية من البطولات التى يفاخر بها رجال ونساء المهن الاعلامية من مصورين ومذيعين ومراسلين وصحفيين ، وهم جميعا يستحقون كل التقدير والاعجاب لأنهم يساهمون فى تعرية وفضح جرائم الحرب ، وجرائم صناع قرار الحرب ، وفضح جرائم كل من يصمت عن تلك الحرب ويرضى باستمرارها ، ومنهم الحكام العرب . وهنا اريد ان اشيد بصورة خاصة بالصحفى البريطانى( روبرت فسك)الذى تنشر تقاريره المليئة بالمعلومات والتعليقات الرصينة على صفحات ( الاندبندنت )البريطانية . ان هذا الصحفى ظل دائما مهتما ومتعاطفا مع القضايا العادلة ومنها قضية فلسطين ، وظل دائما يكتب من الميدان ، وليس من المكاتب كما يفعل جل الصحفيين العرب العاملين فى الصحافة المكتوبة بالذات ، معتمدين على وكالات الأنباء وشبكة الانترنت . ان الآلة الاعلامية الحديثة ، والخبرة والمهنية فى التعامل مع الحدث بالصورة والصوت اصبحت تؤثر تاثيرا كبيرا فى توجيه الرأي العام ، واصبحت القدرات الاعلامية والسياسات الاعلامية قادرة على اسقاط حكومات ، وتغيير استراتيجيات حكومات اخرى بكشفها عن اخطاء تلك الحكومات وتلك الاستراتيجيات . هذا التطور الاعلامي صار تاثيره واضحا ، ومع انتشار أداة الانترنت والهاتف االمتنقل (الموبايل) ومعه جهازه التصويري والبرقي ، دخلت القدرات الاعلامية طورا جديدا اكثر تقدما وسرعة فى التواصل بين الناس فى كل انحاء العالم . مع كل ذلك يبدو ان حكام العرب وبعضهم جهلة واميون حرفيا وثقافيا لا يدركون ماذا يجرى حولهم، وغياب الادراك يجعلهم دائما عاجزين عن تقدير الموقف الصحيح ، وقد ظهر ذلك واضحا عندما استعجلوا واطلقوا تصريحات مثبطة للهمم عندما بدأ الاحتكاك بين المقاومة الفلسطينية ثم اللبنانية مع جيش اسرائيل . جيل الحكام العرب ينتمى الى عصر ما قبل هذه التطورات العلمية فى مجالاتها المختلفة ، وهم سبب شد الشعوب الى الخلف ، وهم من يتحمل مسئولية كل الهزائم والفشل ليس فى ميادين الحروب بل جميع ميادين الحياة . بالتأكيد ان ثورة الاتصالات والمعلومات التى اصبحت تخترق جدران قصور الاستبداد ، وتصل آثارها الى ملايين المواطنين وخاصة الأجيال الجديدة ، ستحدث تغييرات هائلة فى خلق وعي جديد ، ويظل الصراع الحقيقى هو صراع الأفكار والقيم الانسانية العادلة ، والفائز فيه - عبر الوسائل الحديثة ومنها الاعلام - هو الفائز فى عدة ميادين اخرى ، فنوع الوعي ونوع الفكر الذى يسود فى امة من الامم بابعاد ايجابية وشاملة هو الذى يصنع التحول الأساس نحو النهضة . والحروب عادة تحدث تغييرات كبيرة فى المجتمعات التى تمر بها ، وبقدر ما فيها من آلام ، بقدر ما تكون حافزا للأحياء للإستعداد لدورة جديدة من التحدى والعمل والبناء. وتبقى الحروب حالة استثنائية مكروهة ، وتبقى القدرات الاعلامية من اهم القوى المؤهلة لتقصير مدةالحرب ، والتقليل من آثارها المدمرة ، وتبقى كذلك قادرة على ملاحقة المسئولين عن قرارات الحرب وما ادت اليه تلك القرارات من كوارث انسانية .