: أعود مرة أخرى للخوض في تلبيس الملبسين على الهوية الوطنية , اذ لازلت مستثمرا لمناخات زيارتي لتراب الوطن بتاريخ 19 فبراير 2011 , حتى نزلت ضيفا على ندوة أشرف عليها مركز دراسة الاسلام والديمقراطية بمدينة العلوم في تونس العاصمة ... كان الحوار الذي أشرف عليه رئيس المركز: الدكتور رضوان المصمودي , قادما من العاصمة الأمريكيةواشنطن , فرصة للاستماع الى مجموعة من الآراء التي تعتمل الساحة التونسية ... استضافت تلكم الندوة الوزير الأسبق حمودة بن سلامة , والسادة : حمادي الجبالي عن حركة النهضة والمولدي الرياحي عن التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات ود.عياض بن عاشور بصفته رئيسا للجنة العليا للاصلاح السياسي ... امتلأت قاعة ابن خلدون يومها بضيوف من مختلف الأطياف , وكانت الفرصة سانحة لتحسس تجاذبات الرأي على ضوء ماورد من تعقيبات ومداخلات تلت تدخل ضيوف الندوة ... لازلت أذكر يومها حجم مااحتضنته تعليقات البعض من كراهية غير مفهومة لقيمة الايمان , أو حتى تجاسر بعضهم على الدعوة الصريحة الى الغاء الفصل الأول من الدستور التونسي ... دستور تم تعليق العمل به بعد أيام من تاريخ انعقاد ندوة مركز الاسلام والديمقراطية , في انتظار أن ينتخب التونسيون مجلسا تأسيسيا جديدا يتواضع على صياغة دستور جديد للبلاد ... تدخل أحد الطلاب في عفوية ليقول " نحمد الله على أن جميع من بالقاعة هم من معاشر المؤمنين... " , فاذا ببعض الحضور يصيح , ومن أعالي فضاء مدرج ابن خلدون ! : " مؤمن على روحك , لاياسيدي ماناش بكلنا مؤمنين , أنا مانيش مؤمن ! "... ثم مضت أخرى لتقول بأنها حلمت ولازالت تحلم في المستقبل بالغاء التنصيص الدستوري على الاسلام بصفته دينا رسميا للدولة ..., ولازالت أكتشف حجم هذا التنكر الفكري والانسلاخية عن الانتماء العربي والاسلامي لتونس , حتى أيقنت بأن البعض من نخبنا لازال يدور مع الخديعة التاريخية الكبرى حيثما دارت , مادام ثمة من يكرر "اسطوانة مشروخة" عن فصل وهمي في الغرب بين الدين والدولة ! حينما يتعلق الأمر بقضايا الاندماج بين المسلمين والغالبية المسيحية في بلاد أوروبا , يتعلل ساسة كثيرون بفشل سياسة الاندماج على اعتبار تمسك الغرب بهويته المحلية , في حين تتبارى أحزاب قومية وأخرى محافظة ومسيحية التوجه والهوى في كسب أصوات الناخبين على أرضية حماية المرجعية الثقافية المسيحية وحماية الموروث الكنسي من الاسلام الوافد ...! في الغرب لازالت أغلب دساتير أوروبا تنصص على اعتبار المسيحية دينا رسميا للدولة مع اقرار ضمني باليهودية كواحدة من الديانات المعترف بها على الصعيد الرسمي , أما الاسلام فلايزال في طور الكفاح من أجل بناء المسجد وتعليم أبجديات الدين واللغة العربية لأبناء الأقلية المسلمة ..., أما المآذن فهي معدودة في كل بلد أوروبي على الأصابع ! , ولاننسى طبعا عدم السماح باستعمال الأبواق في المآذن في النداء الى الصلوات المفروضة ... لازلنا نذكر انحياز سويسرا الرسمي , وعبر استفتاء شعبي الى قرار بحظر بناء المآذن ! , ثم يأتي مثقفون منخدعون وخادعون ليحدثونا عن نجاحات الغرب وتفوقه بفضل اللائكية ... دعونا نتحدث بشجاعة وبصراحة , فتعامل الغرب مع مجازر البوسنة والهرسك كان فاترا , الى الدرجة التي سمحت بذبح عشرات الآلاف من المسلمين وعلى مدار أشهر على مرأى ومسمع من العالم , ولم يكن لتردده في الحسم مع مجازر سلوبودان ميلوسوفيتش وكارادافيتش من سبب غير موضوعات الالتقاء على أرضية الهوية التاريخية المسيحية ... لم يكن سلوك الغرب طبعا سويا , ولايمكن أيضا ومن باب الانصاف الحديث عن رؤية غربية موحدة تجاه قضايا الاسلام والمسلمين , غير أنه لايمكننا الشك في حضور المخزون الثقافي والفكري المسيحي في السياسات المعتمدة لدى الدولة , وهو مايعني أن مقولة اللائكية تظل مقولة ساقطة نظريا حتى في عقر دار من يدعي صناعتها ... واذا كان البعض في تونس مولعا بعشق فكرة اللائكية , من منطلق أنه "مغلوب" ومولع بقوانين علم الاجتماع , بتقليد الغالب ! , فان الغالب اليوم وأقصد الغرب , بات مراجعا لعلاقة الدين بالدولة عبر تجسير الهوة مع الكنيسة والدعوة الى بث قيم المحافظة حفاظا على الأجيال الصاعدة من مزالق الضياع والانهيار ..., اذ يكفي النظر الى تجاذبات الساحة بالولايات المتحدةالأمريكية , حتى نوقن بأن للدين سلطانا على اليمين المحافظ وحتى على رسم كثير من السياسات الخارجية , بل ان للكنيسة دورا قويا وبارزا في تشكيل أعصاب الخارطة الحزبية , وخاصة في أروقة الحزب الجمهوري ... تلكم بعض الحقائق التي أردت ذكرها في ضوء تجربة عقدين من الحياة بالغرب , ولقد كان حجم المرارة كبيرا حين اكتشفت أن مايردده أساطين اللائكية التونسية , هو مجرد خديعة كبرى وقع تمريرها على الأجيال في مناهجنا التعليمية , اذ لطالما حدثنا هؤلاء عن شفرة سرية لنهضة الغرب , فكان أن وقع تفكيك طلاسمها عربيا عبر حديث انسلاخي عن ضرورة فصل أعمى ومقلد للدين عن الحياة العامة ... واذ لا أشك في أهمية التأسيس لسلطان مدني يحكم الدولة , عبر التنافس على خدمة الناس والصالح العام ببرامج حقيقية في السياسة الداخلية والخارجية على أساس التسامح والانفتاح , أو في المجال الاقتصادي عبر تقليص الهوة بين الطبقات والجهات وتكريس حق العمل للجميع وبسط العدالة الاجتماعية , أو غير ذلك من سياسات اجتماعية تكرس التأمين على الحقوق الفردية والأسرية وتعمق آصرة التضامن بين خلايا ومكونات المجتمع , فانني لاأرى رغبة البعض في التنكر للانتماء الديني والاسلامي لتونس في النص الدستوري , الا تنكرا لشهادة الشهداء وتضحيات عظيمة قدمها رجال الثورة , فهؤلاء لم يقدموا دماءهم زكية سخية من أجل بتر تونس عن حاضنتها الاسلامية !!! , بل قدموها من أجل بسط العدل ورفع الجور وتكريس الحرية واعادة الاعتبار للكرامة المهدورة , وأحسب أن شهادتهم هاته حققت مقاصد الاسلام العظيمة حين كرست انسانية الانسان وانتصرت لقيم كونية تجمع بين العالمين كافة... أما بورقيبة المفترى عليه , فقد نسى أولئك بعضا مما ذكره بخصوص علاقة الدين بالدولة , ولعلني أذكر في هذا السياق بعضا من مقولاته : -"تونس ليست دولة لائيكية لكنها تقدمية" - "الإسلام في جوهره ديمقراطي قائم على المساواة وحرية الأفراد" - "الإسلام سبق أفكار جان جاك روسو في آرائه حول حرية الفرد ومساواته مع الآخر" وحينئذ فان تونس مسلمة للنخاع الشوكي , مع اقرارها للجميع بحق الاختلاف في العقيدة وحقهم بالاختلاف الديني والفكري , وحقهم بالتغاير الذهني والفلسفي والسياسي ..., وكما يقول لسان العرب : فان للناس فيما يعشقون مذاهب ... ويبقى الأمر جليا بنص القرآن , بأنه : " لااكراه في الدين , قد تبين الرشد من الغي " , وهو مايعني أن التنصيص على هوية ودين الدولة لايعني مطلقا تكريس الشوفينية أو مصادرة الحرية العقدية , أو نصب محاكم التفتيش للمخالفين على هذا الأساس , بل ان من صميم واجبات الدولة أن تحمي الأقليات وتضمن حمايتها سواء كانت يهودية أو مسيحية أو حتى صابئة ان وجدت , وهو مايعني ضمان حرية المعتقد بنص الدستور أيضا , بقدر حرصنا المطلق على ضمان التنصيص على الاسلام كدين رسمي للدولة في الديباجة و الفصل الأول من الدستور. ان تهديد البعض لهوية تونس العربية والاسلامية وحرص البعض على تغيير الفصل الأول من الدستور المعلق, يدعوني اليوم الى اعلان ترشحي لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي المزمع تنظيمها بتاريخ 24 جويلية 2011 , كما يدعو كل أبناء تونس وبناتها الى الانتصار الى دعاة الحرية والكرامة والعدالة ماأعلنوا وفاءهم الصادق والخالص للغة البلاد واحترامهم العميق لدينها الرسمي .