: حين استحكم غول "بن علي" في المهج والأنفس , لم يكن متاحا لأغلب أبناء تونس وبناتها , أن يرفعوا أصواتهم لانتقاد أي مسؤول من مسؤولي الدولة التونسية , فرجال الحزب الحاكم في كل دوائرهم : الشعب التجمعية , لجان التنسيق , العمد , المعتمديات , البلديات , المجالس الجهوية , الولايات , الوزارات , القنصليات , السفارات ..., كل أولئك كانوا يتمتعون بحصانة أمنية وسياسية , حتى بات ظلهم ملاحقا لأشواق الحرية داخل وخارج حدود أبجديات مفهوم الوطن ... لانتحدث طبعا عمن يمت بصلة عائلية أو أمنية أو سياسية , لصاحب السمو المخلوع زين العابدين بن علي أو لصاحبة الجلالة المرفوعة ليلى الطرابلسي .., فهؤلاء محصنون بالواقع والفعل .., ولم يكن أحد يتجرأ على المساس بكيانهم الاعتباري أو حتى مطالبتهم بحق مشروع ... أما اليوم فقد أفسحت الثورة للجميع في مجالات النقد والتعبير , حتى جاز للبعض القول بأننا أمام أزمة "تخمة الحريات" ! ... واذ لاأشاطر هؤلاء الرأي بخصوص توصيف عوارض الأزمة , فانني أذهب الى القول بأن المجتمع يواجه بلاشك تحديات فقه الأولويات , واستحقاقات ترتيب تداعيات صدمة الوعي ... فالتونسيون انتقلوا من المطالبة باللاشيء , أيام جبروت الطاغية بن علي , الى المطالبة بكل شيء بعد الثورة ... انتقل التونسيون فعلا من حالة الصمت القهري , والملك الجبري العضوض , الى حالة اشاعة بعض من الملك وبسط أقدار عالية من الحرية , وهو ماجعلهم اليوم يطالبون بمحاسبة الجميع وعزل الكثيرين , ليفتح الباب على مصراعيه في عوالم العزل والتحقيق والمقاضاة وتراكم المطلبيات والعرائض ... في تلكم المؤسسة يطالب البعض بعزل الرئيس أو المدير , وفي الأخرى يطالب آخرون بالترسيم المهني , في حين يطالب آخرون بالزيادة في الأجور , أو بتمتيعهم بما طاب ولذ من المنح والامتيازات , في حين لازال آخرون يخافون هاجس غول الفقر والمرض والعطالة والتمييز... استولى البعض بالاستناد الى مشروعية الثورة على أراض وعقارات !!! , وانتصب آخرون فوضويا وبطريقة مؤذية للوطن والمواطن في أجمل تقاطعات الشوارع والساحات !... كاد الاعتصام أن يفقد معناه ! , حين حوله البعض الى أسلوب للتعدي على حرمة الآخرين أو الى أداة للانتقام من المسؤول لأنه ابتلي بتحمل المسؤولية بعد الثورة !... يكفي أن نطالب اليوم بتحكيم العقل وتغليب الصالح العام وبعدم تقويض مكاسب الثورة , حتى يتهمك البعض بالسكوت على المحسوبية والفساد وهلم جرا !... شرعية الثورة , لم تكن أبدا شرعية للفوضى , وشرعية الحرية لم تكن مطلقا شرعية المساس بحرمات الأشخاص أو الكيانات الاعتبارية بدون وجه حق !... الثورة في معناها السامي والنبيل ترفع عن الظلم والأحقاد والكراهية وتصفية الحسابات بالطرق المقذية , وهو مايعني أن القضاء هو الجهة الوحيدة المخولة بالبت في ملفات الفساد أو التعذيب أو غيرها من التركات الثقيلة لنظام بن علي ... أما حين تصبح الثورة مبررا للبعض من أجل الغاء كل شيء ! , واسقاط كل شيء ! , وتنحية كل شيء ! , وطرد كل شيء ! , وحل كل شيء ! , والتخلي عن كل شيء ! , لأنه قديم أو تولى المسؤولية في العهد السابق !!! , فان ذلك قد يعني فتح الباب واسعا أمام تفكيك عرى وأواصر الدولة ... ولست هنا بصدد التخويف من التغيير أو التجديد في جسد ومفاصل وهياكل الدولة , بل انني بصدد التنبيه الى مخاطر التخلي عن تقاليد عمل الدولة , اذ ثمة خبرات وتجارب متراكمة على مدار أكثر من نصف قرن لايمكن التخلي عنها بالاستناد الى تحريف مفهوم الشرعية الثورية , أو الغاء شرعية القانون أودولة المؤسسات ... قد نفتقد في تونس اليوم الى شرعية المؤسسات , ولكننا نبقى بلاشك كأمس ماتكون الحاجة الى العمل بالحد الأدنى من المؤسسات القائمة , في انتظار بناء مؤسسات الدولة وهياكلها الفاعلة على شرعية انتخابية نزيهة , تستمد سلطتها المباشرة من الشعب وارادته الحرة ... ثقافة تعميم مقولة - دايقاج ! - أي ارحل ! في كل ربوع الوطن , قد تنقلب على الوطن فلتانا أمنيا وتعميما للفوضى بين مسارب الدولة , وهو مايعني الانتصار آليا بوعي أو عن غير وعي للعهد البائد وقواعد الدولة البوليسية ... كلام قد لايعجب الطامحين الى العودة بتونس الى ماقبل 14 جانفي 2011 , ولكن وجب الصدع به في موضع سكوت الأغلبية , أو استسلام الكثرة الى انتشاءات عاطفية ..., اذ أن أمانة الثورة ودماء الشهداء عرضت علينا معاشر التونسيين والعرب كافة من أجل أن تتقدم المنطقة وتتخلص من التخلف والفقر والمرض والجهل واللاوعي والاستبداد والفساد ..., ولذلكم وجب بذل النفس والنفيس شجاعة فكرية وسياسية واعلامية من أجل تعرية أولئكم المتآمرين في الدهاليس على مكاسب الكرامة والحرية ... نعم للمحاسبة , ونعم للانصاف , ونعم لاسترداد الحقوق , ولكن بطريق الحكمة والنباهة , وليس بطريق التعجل وتحميل أعمدة البيت وأركانه مالاطاقة لسقف بحمله ! , فتونس عندنا مقدمة على الذوات , وحفظها مقدم على الانتصار للأحقاد أو تصفية الحسابات , ولذلك وجب حماية أمنها القومي والشعبي , حفاظا على الحرية والكرامة والمكاسب الوطنية ... تونس هي الأغلى لدينا , وحرية شعبها وكرامته هي من المقدسات , ولذلك وجب القول بأن حضور الدولة واستمراره بطريقة توازن بين المطالب المشروعة والامكانات , هو من المسائل التي وجب مراعاتها في الأفعال والأقوال حتى ننتصر فعلا لارادتنا الفردية والجماعية في الحياة ... قد يريد البعض اقحام الاعلام في قضايا هي من صميم اختصاص القضاء المستقل , غير أن توازن الاعلام وتمتعه بامتيازات حفظ التوازن بين السلطات الثلاث يحتم علينا اليوم التنبيه الى أهمية عقلنة الثورة ومطالبها , والسير باتجاه رصين نحو التمكين لأهدافها في جنبات المجتمع ... نعم لترسيخ الحرية , ولالتقويضها !, نعم لتعميق احساسنا الشخصي والجمعي بالكرامة ولاسبيل لما يمكن أن يذهب بكرامتنا أفرادا وجماعات ... !, نعم للعدل والعدالة الاجتماعية , وألف لا لما يمكن أن يكون سببا في تأبيد أزمة الظلم أو تعميق أزمة غياب العدالة ! ... نعم لزرع الأمل وارادة الحياة , ولا لزرع الفوضى واليأس والاقدام على حرق النفس بدل احيائها ... نريد لأبناء الوطن أن يقطعوا في عهد الثورة وبشكل نهائي مع الاقدام على احراق الجسد , أو الالقاء بالنفس في قوارب الموت , فطريق تونس بات سالكا نحو الحرية والكرامة والعدل , ولكن فوق ترابها وبسواعد مواطنيها وأبناء شعبها !... رسائل لابد أن تحقق الثورة مبتغاها , ولقد تمكنا اليوم بفضل الله من ازاحة العقبة الكؤود التي حالت دوننا ودون الابداع والنهوض على مدار أكثر من نصف قرن ... مسؤولية اليوم باتت عظيمة , فلاتعلل بالقهر والبطش والجبروت ! , بل ان ثورة تونس باتت مطلبا شعبيا وجماهيريا من المحيط الى الخليج , فهي مناط التكليف وشرط القيمومة بعد خمسين سنة من السبات العميق ... انه زمن العطاء والاضافة والابداع والسمو والترفع والاشراق .., فلنتنافس حينئذ في معارك البناء والاشادة , بدل تكبيل الوطن بعقلية الانتقام , والمواطن بعقلية الانتصارات الوهمية والهامشية ... الله الله , في ثورتنا العظيمة !, الله الله في الكرامة والحرية والعدل ! , الله الله في دولتنا واجتماعنا البشري على الحضارة والتاريخ ! , والله الله في دماء الشهداء ! , والعهد العهد في الأخوة والمساواة بين كل أبناء تونس ...