بدا الملحن والموسيقار التونسي رضا الشمك مساء الثلاثاء منتشيا خلال العرض الافتتاحي لمهرجان قرطاج الدولي ما بعد بن علي، وذلك رغم الرياح العاتية التي هبت على فضاء متحف قرطاج في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس وكادت تعبث باوراق النوتات الموسيقية وبأصوات المطربين. وقدم الشمك مصحوبا بفرقة من 40 عازفا وجوقة غنائية على مدة قرابة الساعتين في متحف قرطاج عرضا بعنوان "ارادة الحياة"، احتفاءا بثورة الكرامة والحرية التي اطاحت بنظام زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير الماضي. وبلغ التناغم ذروته عندما غنى الشمك قصيدة "الديك" للشاعر السوري الكبير الراحل نزار قباني التي بدت وكانها وضعت على قياس الرئيس المخلوع بن علي. فتعالت الزغاريد ووقف الحاضرون لتحية الموسيقار مصفقين له بحرارة قبل ان يطلبوا منه اعادة الاغنية فلبى الطلب قائلا "اهدي هذه اللحظة الرائعة الى كل اصدقائي واحبتي". يقول مطلع القصيدة "في حارتنا ديك سادي سفاح ينتف ريش دجاج الحارة كل صباح.. ينقرهن يطاردهن ويضاجعهن ويهجرهن ولا يتذكر اسماء الصيصان". وتكمل القصيدة "ديك يصرخ عند الفجر كشمشوم الجبار.. يطلق لحيته الحمراء ويقمعنا ليلا ونهارا.. يخطب فينا ينشد فينا يزني فينا فهو الواحد وهو الخالد". واستحضر الملحن التونسي الذي بدا سعيدا جدا بالعرض، قصائد للشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي غيبه الموت في اب/اغسطس من العام 2008 عن 67 عاما اثر مضاعفات اعقبت عملية جراحية دقيقة له في القلب. فغنى مطربون تونسيون خلال الحفل بعض قصائد درويش التي لحنها الموسيقار التونسي، ومن بينها "يطير الحمام" و"الزنبقات السود" و"تكبر" التي اشتهرت بأدائها المطربة اللبنانية اميمة الخليل برفقة مواطنها الملحن مرسيل خليفة رفيق درب الشاعر الفلسطيني الشهير. كذلك ردد اخرون اغنية "فكر بغيرك وانت تعد فطور الصباح" و"مر القطار" لدرويش نفسه. وعلى انغام موسيقى عصرية قدمت الفرقة ايضا اغان اخرى من تلحين رضا الشمك، ابرزها "لا احلم بحرية تهدى لي" التي لقيت هي الاخرى تجاوبا من قبل الجمهور الذي صفق لها طويلا. وقد اختتم العرض باغنية "ارادة الحياة" للشاعر التونسي ابو القاسم الشابي التي اداها المطرب الشاب الضرير وليد المزوغي. هشام عماري أحد عازفي الفرقة. هو عبر عن سعادته بالعرض فقال "انطلاقا من هذه السنة ستتاح لنا فرص اقامة عروض جيدة وتقديم ابداعات رائعة والتعرف على موسيقيين حقيقيين"، مؤكدا على "البعد الثوري" لعرض افتتاح الدورة ال47 من مهرجان قرطاج الدولي الذي يستمر حتى 6 اب/اغسطس. وفي السياق نفسه، وصفت المطربة الشابة روضة هذه التجربة "بالكبيرة والمفعمة بالحب والسعادة". وقالت ان شمك "حاول الاحتفاء بالثورة" التي انطلقت من تونس واضاءت سماء العالم العربي. وكان عزالدين باش شاوش وزير الثقافة في الحكومة الانتقالية، قد أوضح في وقت سابق "التزمنا عمليا بثورتنا من خلال البرمجة". تابع "على التونسيين ان يواكبوا الفعاليات لتكون بحق مناسبة للتعبير عن فرحتنا بثورتنا التي لم نفرح بانجازاتها بعد"، في اشارة الى الاوضاع الامنية التي سادت البلاد ومحاولات بعض المتطرفين الاسلاميين عرقلة بعض الفعاليات الثقافية بعد 14 كانون الثاني/يناير. لكن الشابين (هشام عماري وروضة) لم يخفيا استيائهما من "التحضير المرتجل للعرض واهمال المنظمين". واوضح عماري ان "التحضيرات اعتمدت على وسائلنا المتاحة". واضاف "المسرح لم يجهز الا في اللحظات الاخيرة كما ان برنامج العروض لم يكن متوفرا واللافتات لم تعلق في الساحات والشوارع الا يوم الافتتاح. إلى ذلك لم يتسلم العازفون الدعوات الخاصة بأقاربهم الا قبل ساعات قليلة على انطلاق هذه الظاهرة" العريقة. من جهته، دافع عبد الحميد المروي المشرف العام على المهرجان عن الأمر قائلا لوكالة فرانس برس "الاستعدادات بدأت متأخرة نظرا للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد" منذ 14 كانون الثاني/يناير. وشرح "من الصعب استقطاب جمهور له اهتمامات اخرى بعيدة عن الثقافة في هذه المرحلة". لكنه قال "نعمل ليلا نهارا من اجل ان تتحسن الأوضاع وتعود الامور التنظيمة الى نصابها". وقد شهدت البرمجة هذا العام تغييرات كثيرة. وكانت وزارة الثقافة قد اعلنت في وقت سابق ان المطرب التونسي لطفي بوشناق سيفتتح المهرجان في الثاني من تموز/يوليو، غير ان نقابة الموسيقيين التونسيين احتجت على هذا الاختيار، ما اثار جدلا واسعا في الساحة الثقافية في تونس دفع بالمنظمين الى التراجع عنه. وعزت نقابة الموسيقيين في تونس رفضها إلى "إدراج اسم لطفي بوشناق في قائمة الشخصيات الثقافية والإعلامية التي ناشدت الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي للترشح للانتخابات الرئاسية 2014". واكدت النقابة في بيان لها أن "أي عازف يشارك بوشناق في هذا الحفل يعتبر نفسه غير مدرج في قائمة أعضائها". ومن التحويرات الاخرى التي شهدتها الدورة الحالية للمهرجان، تغيير فضاء العروض. واختار المنظمون ثلاثة مواقع مختلفة بدلا عن المسرح الروماني في قرطاج في الضاحية الشمالية للعاصمة الذي دأب على احتضان نشاطات اعرق المهرجانات العربية. وسوف يشهد المسرح الاثري في قرطاج اعتبارا من تموز/يوليو الجاري اشغال تهيئة ستستمر حتى ايلول/سبتمبر. وتستأثر العروض التونسية بالحصة الاكبر في برنامج هذا العام. فيقدم المهرجان عروضا غنائية للفنانة امال المثلوثي وفرقتي البحث الموسيقي بقابس واولاد المناجم (جنوب) وللثنائي الملتزم امال الحمروني وخميس البحري، هي الاولى لهم ضمن نشاطات هذا المهرجان العريق. وفي البرنامج ايضا عروض اخرى للفنانين مقداد السهيلي ومنير الطرودي والفة بن رمضان ومحمد الجبالي وشهرزاد هلال وسعاد ماسي وشريف علوي وعازفي العود الاخوين المرايحي. ويشمل البرنامج ايضا عروضا مسرحية تونسية من بينها "صنع في تونس" للطفي العبدلي و"بدام بدام" لسعاد بن سليمان و"يحي يعيش" للمخرج فاضل الجعايبي و"جاي من غادي" لنورالدين الورغي حول البحث عن الهوية و"حارق يتمنى" لرؤوف بن يغلان حول الهجرة السرية. عربيا يقتصر المهرجان هذا العام على بضعة أسماء لامعة، بخلاف الدورات الماضية. وتبلغ موازنة المهرجان هذا العام مليون و700 الف دينار بعدما كانت تتجاوز الخمسة ملايين الف دينار خلال الدورات الماضية، بحسب وزير الثقافة. وفي طليعة المطربين والفرق العربية المشاركة في المهرجان الفنانة اللبناية اميمة الخليل وفرقتا "اسكندر لا" المصرية و"الجذور" الفلسطينية و"روائع الطرب الحلبي" السورية. اما العروض الاجنبية والافريقية فستكون متنوعة وتتضمن رقصا وغناء. كذلك تشارك في المهرجان فرقة الباليه الصربية والاوركسترا السمفونية من صقلية والباليه الاسباني للفلامنكو و"ثلاثي الجاز" من ايطاليا. واشتهر المهرجان منذ نشأته قبل 47 عاما بانه البوابة الحقيقية لمنح تاشيرة النجومية للعديد من المغنين لا سيما العرب. ومنذ 1964 غنى على خشبة المسرح الروماني في قرطاج ام كلثوم وعبد الحليم حافظ وفيروز ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية وشارل ازنافور وغيرهم.