لدى الحديث عن موضوع التعايش يتبادر إلى الذهن طبقات شتى من التعايش، هل هو التعايش مع الذات، التعايش بين فئات المجتمع المختلفة؟ التعايش مع الآخرين الذين ينتمون إلى شعوب وقبائل أخرى؟ وعندما نقول نحن فما الذي نقصده بهذه الكلمة؟ أم أنه اصطلاح؟ هل المقصود بنحن مجموعة شعوب المنطقة العربية والدول الاسلامية التي بلغ تعدادها ربع سكان المعمورة؟· وإذا كان المقصود بكلمة نحن مجموع شعوب المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج فينبغي أن نعرف ونعترف بأننا في هذه المنطقة بالذات نفتقر إلى أبسط عناصر السلام الداخلي، وإذا حصرنا حديثنا في المسألة الاجتماعية وجدنا أنه لا الانسان متعايش مع نفسه يشعر بالرضى والطمأنينة والحرية، ولا المجتمعات تتمتع بسلام اجتماعي يقوم على أساس استقرار السلوكات الأخلاقية الاجتماعية الإسلامية· كذلك فإن النخب العلمية والثقافية والفكرية والسياسية لاتخضع لشبكة علاقات متأصلة في ضمير المجتمع يلتزمها الجميع باحترام وحرية· حول هذه التساؤلات وحول وضع المرأة المسلمة كمثال لقضية التعايش التقت الوعي الإسلامي مع الأستاذة نوال السباعي وبدأت حديثها قائلة: إذا استثنينا موضوع القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي العربي الإسلامي خلال القرن المنصرم يبرز هذا الواقع جلياً في ظل صراع مرير وبالغ العنف عانت منه المنطقة العربية بين التيار الإسلامي والتيار القومي، الأول في مقام المعارضة الشعبية والفكرية والثقافية والمقاومة المسلحة في كثير من الأحيان، والآخر في موقع السلطة السياسية والعسكرية والإعلامية، وقد تمخض هذا الصراع كما يعرف الجميع عن خسائر قليل في حقها أن نصفها بالفادحة ماديا وإنسانيا وثقافيا وفكريا· لكن الانتفاضة الفلسطينية التي شهدها العالم بين قرنين، والأحداث الموازية بالغة الأسف التي عانتها المنطقة بدءاً بغزو الكويت وانتهاءاً بدخول الجيوش الغربية المنطقة العربية بعد أربعين عاما من الاستقلال عن المستعمر، أدت إلى انعكاسات جذرية في صياغة الشخصية العربية الحديثة، أهم تجليات هذه التغييرات سقوط النظرية القومية العربية، على الأقل في ميزان النظريات السياسية الحية الفاعلة في تاريخ البشرية والشعوب، وتجلى ذلك في ظواهر وملامح هامة ملفتة: انبعاث النعرات القومية المتعددة على امتداد المنطقة العربية بدعم حثيث من الدول الغربية التي تبنت قضايا هذه الأقليات العرقية في إطار المطالبة بحقوق الإنسان في دول لاشيء فيها يعتبر للانسانية أي ميزة، وحق تقرير المصير في منطقة تمور بالصراعات السياسية الاقتصادية المزلزلة· وفقدان الدولة القطرية هيبتها على هامش التدخلات والضغوط الأجنبية الهائلة على حكومات المنطقة· تجاوز الشعوب في المنطقة العربية على وجه الخصوص للحركات الاسلامية (ماعدا الكويت، وفلسطين، والمغرب ) بسبب من عجز هذه عن تلبية حاجات الناس الاجتماعية على أقل تقدير، كما عجزها عن النمو والتطور في عالم يسير بسرعة خارقة نحو تغيير الأشياء والأفكار والخصوصيات (وليس الثوابت)· بروز عنصر ماتواضع العالم على تسميته الإرهاب الإسلامي كمؤثر شديد الأهمية والخطورة على الساحة الدولية، مع التشديد على انبعاث نظرية المؤامرة من مرقدها لتكون أقوى منها الآن من أي وقت مضى، ناهيك عن الصمت العام فيما يتعلق بأسباب بروز هذه الظاهرة وتحليل أبعادها الاجتماعية والسياسية والفكرية، واعتبارها من قبل الجميع مجرد ظاهرة إجرامية يجب محاربتها والقضاء على أصحابها ومهما كان الثمن· إلا أن أهم ملامح هذه الفترة كان ودون أدنى شك بروز تيارات فكر جديد في المنطقة العربية هو نتيجة تلاقح الفكر الإسلامي والفكر القومي الذين كانا من ألد الأعداء بالأمس القريب جدا, لكن الصراع بين الطرفين ذاب في أتون الانتفاضة الفلسطينية الشريفة وانمحى تحت تأثير أصوات الانفجارات والعويل ومناظر الحرائق والدماء في بغداد، وانقلب ذلك الصراع التاريخي بين عشية وضحاها وبما تفرضه ضرورات المرحلة التاريخية الخطيرة التي تعيشها الأمة إلى صراع ثقافي واضح المعالم بين تيارين جديدين قديمين هما تيار الأصالة والحداثة، مع معطى بارز وبامتياز يتجلى في نأي السلطة السياسية والعسكرية هذه المرة عن هذا الصراع، لسبب واحد هو أن السلطات السياسية في معظم البلدان العربية ماعادت تشغلها القضايا العقائدية لأنها منشغلة اليوم بهدف واحد فقط وهو الحفاظ على مقاعدها ومكاسبها الشخصية· وأكدت السباعي أن بدت كما لم تبد منذ زمن بعيد، بدت وكأنها هيكل من ورق تلاشى واحترق وسقطت كل الشعارات، فلا وحدة، ولاحرية ولانصرة للقضية التي ظهر للجميع أنها بعدها العربي لم يكن يعني أي شيء على الإطلاق إلا حصر الشعب الفلسطيني ووقف التمدد الإسرائيلي نحو العواصم العربية المجاورة، وقد أيقظت الانتفاضة الأخيرة المارد الإسلامي من هجعته وساهمت في إعادة القضية إلى بعدها الإسلامي الذي كانت قد غيبت عنه خلال قرن كامل من الزمان· وأضافت: على الرغم من سرعتها الفائقة تركت هذه التغييرات العميقة سلبا وايجابا بصماتها على الضمير الجماعي للأمة، مما جعل الحاجة تبدو ماسة لفتح ملف تحديد الهوية من جديد، وتأكيد انتماء المنطقة العربية إلى هذه الأمة أصبح حيويا تلبية لمطالب الجماهير التي وجدت نفسها في مواجهة آخر يطالبها بالانفتاح والحوار والتعايش في نفس الوقت الذي تقوم فيه جيوشه بغزو أرضها واغتصاب سجنائها وإهانة ثوابتها، كل هذا الزلزال جعل الشعوب تعود إلى هويتها الإسلامية، وتتمسك بثوابتها بشكل لم نشهد له مثيلا خلال الأعوام الخمسين الماضية على الأقل، إنه يستحيل على قوم أن يتعايشوا مع آخرين مالم يكونوا يعرفون هم أنفسهم من هم, هذا البحر الهائج المائج من الأحداث التي كانت تفكك الواقع والأفكار والماضي والحاضر وتعيد تركيب عناصرها بسرعة البرق التاريخي، لم تترك كثير مجال للوعي الفردي للناس أن يدرك حقائقها المرعبة المفرحة في آن، لكنه استطاع أن يؤثر على صياغة الحس الجماعي الذي يصنع ضمير الأمة ويمضي بها وبخطى متعثرة جدا نحو مستقبل آخر كان إلى وقت قريب يبدو بعيدا· وأشارت السباعي إلى أن أول خطوة للحديث عن التعايش مع الآخر هي تحديد الهوية في إطار الثوابت الحضارية للأمة والاعتراف بها على هامش التاريخ الذي حاول أن يسلبها منا أو يسلبنا منها, أو يسلخنا عنها أو يسلخها عنا· واعترافنا بهذه الهوية يحدد ثوابت الأمة، ويعيننا على تشذيب خصوصياتنا وتطهيرها من أدران التاريخ، ويوضح لنا سبل التعايش الحر المتوازن الكريم مع الآخر· هذا الآخر ذو الثوابت التي تنطلق من منطق الفكر الاوربي الحديث القائم على ميراث يوناني بحت يربط كل فلسفته (بالانسان والاشياء والحوادث)، والذي يجد نفسه مهددا من قبل أمة نحن تستند كل مقومات وجودها الحضاري والثقافي على الرغم من عصر الانحطاط الذي تعيشه- على موروث إسلامي ترتبط فلسفته (بالعلاقة بين الخالق والمخلوق)· وأضافت: ثوابت الآخر على الرغم من خلوها من هذه الدعامة بالغة الأهمية في وجودنا نحن لاتصطدم مع ثوابتنا، لسبب بسيط جدا وهو أن هذا الآخر بنسيجه الإنساني متعطش إلى هذا العالم الروحاني الثابت الواضح البسيط الذي يقدم عنه الإسلام صورة فريدة عالميا لايأتيها الباطل من بين يديها ولامن خلفها، الآخر مقبل على ثوابتنا راض بها خاصة وهو يختنق في عالمه المادي الذي يلهث فيه باحثا عن مخرج· لكن خصوصيات الآخر الثقافية تصطدم ومباشرة بخصوصياتنا الثقافية التي ندّعي أنها تستند إلى ثوابتنا الإسلامية وأنها على علاقة بعالمنا الروحي، بينما هي بعيدة كل البعد عن الإسلام وعن العوالم الروحية، بل إن عرضها على الإسلام يعريها من كل نسب به وصلة اللهم إلا المحاكاة والنحت من النصوص بأفهام عقيمة وأهواء شاذة (أمثلة من الفقه والحياة: المهر بدل استئجار رحم المرأة، حق الاخ والوالد في قتل المرأة الزانية في العائلة، حرمان الشباب والبنات في الزواج ممن يحبون بسبب عدم التكافؤ في النسب، حرمان المرأة من قيادة السيارة، حرمان المرأة من أهليتها المالية في أغلب العالم العربي، إرغام البنات الصغيرات جدا على التزام الحجاب، ختان النساء في محفل عام، إثبات عذرية العروس في محفل عام، حق الزوج في ضرب الزوجة بشكل دوري دائم خلال كل سني عمرها وكأنها دابة، استعمال العنف في التعامل مع الآخرين، الاعتقاد بأن العنف وسيلة إسلامية لحل المشكلات، التنطع في التحريم والتحليل استنادا الى الأراء الفقهية الفردية الشاذة، جعل الموضوع الجنسي أساسا في التعامل مع شبكة العلاقات الاجتماعية، التربية بالإهانة والضرب، التسلط على الأبناء والنساء وحرمانهم من أي حق في تقرير مصائرهم أو ممارسة حرياتهم حتى في أطر الشريعة والثوابت·······) هذا الشقاق النكد بين ثوابتنا الحضارية وخصوصياتنا الثقافية هو الذي يشكل العائق الأكبر في هذا الشعور بالصدمة لدى الآخر بكل تعدداته الفكرية والثقافية ويجعله في موقع الصدام الاجتماعي معنا نحن لأن خصوصياتنا الثقافية الحالية المرحلية تبدو بالنسبة إليه وإلى كل عاقل مجموعة من السلوكات المتخلفة غير الإنسانية وغير المنطقية وغير الأخلاقية وغير الدينية، إن بعض سلوكاتنا تبدو من وجهة نظر علم الاجتماع والتربية والأخلاق وكأنها سلوكات جماعية مغرقة في التخلف الإنساني والحضاري المخزي· من هو الآخر يمكننا أن نعتبر أن الآخر إنما هو الغربي بشقيه الأوربي والأمريكي، باعتباره الحضارة والقوة الغالبة في عالم اليوم ماديا وعسكريا واقتصاديا، وأننا نحن هم مواطنوا المنطقة العربية والجاليات الاسلامية المهاجرة الى الغرب الذين يحملون حضارة هي الأعظم في تاريخ البشرية من حيث قدرتها على إنقاذ الإنسان من التخبط في عوالمه المادية وصراعاته النفسية ومع الآخرين، لكننا وعلى الرغم من كوننا حملة هذه الحضارة نبدو عاجزين حاليا على الأقل عن تمثلها بكل عظمتها وروعتها، ولكنها وعلى الرغم من عجزنا قادرة وحدها على اختراق الحدود والحواجز والعوائق والوصول إلى الإنسان في كل زمان ومكان غير عابئة بأولئك الذين يحاربونها أو هؤلاء الذين شوهوها الى درجة إن النبي الذي جاء بها يقول -بالمعنى- إنه يعرض عن أتباعه لشدة مايجد أنهم غيروا وبدلوا من بعده· وركزت السباعي في حديثها على أهمية عدم إغفال سوء نية الآخر في التعامل معنا نحن، ولارغبته في السيطرة علينا، ولااستكباره واستعلاءه في سلوكه وفكره وثقافته وإعلامه وبالطبع سياساته العسكرية والاقتصادية، ولا إعلانه أن حضارته هي الأفضل والأعلى والأكمل والتي يجب أن تفرض نفسها على كل حضارات العالم، لانغفل هذا ولم ننساه، كما لم ننس أن هذا الآخر موجود الآن بخيله ورجله في عقر دارنا يعيث فيها فسادا، ولكننا وعلى الرغم من ذلك كله يجب أن نعرف وأن نعترف أن هذا الآخر ودائما احتكم إلى العقل والمنطق في مواجهة أناس يحتكمون إلى العقل والمنطق، وأن جزءا كبيرا جدا من المجتمعات الغربية وعلى الرغم من خصوصياتنا الثقافية المعيبة كانت لديه الرغبة الكريمة الصادقة للتعامل معنا باعتبارنا أهل ثقافة بشرية يجب احترامنا وليس احترامها بالشكل الذي نقدمه، دائما وفي كل مرة استطاع المسلمون فيها تقديم دينهم بثوابته الحضارية وقيمه الانسانية وعقيدته الإلهية الفريدة، دائما كان نصيبهم القبول والاحترام والتقدير· الثقافة والثوابت تقول السباعي تحديدنا لهويتنا كأبناء أمة مسلمة ينتمون إلى أعراق وأقوام مختلفة يحل نصف المشكلة، اعترافنا بقصور ثقافتنا اليوم عن بلوغ مرامي حضارتنا وثوابتنا وبعدها الشاسع عن روح الشريعة وأهداف الإسلام العظيم هو نصف الطريق الآخر، ويبقى أن نقوم بجهود جبارة في مجال الإعلام والتربية لإعادة ثقافتنا إلى حضن ثوابتنا: نحن لا نحارب الحرية الجنسية لأن الإسلام قرر للإنسان حقه في إشباع غرائزه كلها بالطرق السليمة السهلة الطيبة· و لايجب أن نحارب ممارسة الجنس ولكننا نحارب جعل الجنس عهرا أخلاقيا يدمر الإنسان والمجتمعات نحن لايجب أن نحارب منح المرأة حريتها الكاملة فهذا حق إسلامي منحها إياه الإسلام ولكن يجب أن نحارب كل من يجعلها سلعة ممتهنة أو أمة مستعبدة في بيتها أو خارج بيتها· نحن لايجب أن نحارب حقوق الانسان فالإسلام أول من دعى اليها ولكن نحارب الدجل والكذب والكيل بمكيالين في هذا المجال وإخراج الإنسان من إطار فطرته الإنسانية ليصبح حيوانا· نحن لاندعم ولانرضى إرهاب وترويع الآمنين لأن هذا أمر لايرضاه ديننا ويمنعه ويشدد على عقوبته ولكننا ندعم ونشجع ونقف مع المجاهدين في سبيل تحرير أرضهم وصيانة عرضهم· إن ثوابتنا تدعونا وتحملنا وتشجعنا على نشر الدعوة إلى الله والقيام بأعبائها حتى يصل هذا النور الالهي قلب كل انسان متعطش إليه في أرجاء الأرض بالحكمة والمحبة والموعظة الحسنة· نحن ضد الصدام والحرب والغزو والاعتداء والاحتلال والإرهاب والعنف لكننا مع الحوار والتعايش والتفاهم بين الأفراد والمجتمعات والشعوب والقبائل· وتضيف: إذا كنا نحن أنفسنا بمجموعنا سكان المنطقة العربية والجاليات المسلمة المهاجرة إلى الغرب عاجزين عن تحديد هويتنا بثوابتها الإسلامية وخصوصياتها القومية والجغرافية التي لاتتناقض مع تلك الثوابت، ولم نبد أي رغبة بعد في تشذيب خصوصياتنا مما علق بها من مواريث الجاهليات المتراكمة العادات والتقاليد، عاجزين عن تشذيب حضارتنا اليوم مما أثقل كاهلها من شوائب ثقافاتنا الراكدة المتحجرة الكسيحة ترفض التغيير والنمو، فكيف نريد للآخر أن يفهمنا؟؟! وأن يتعايش معنا؟! حملنا معنا إلى أوربة كل أمراضنا الاجتماعية والإنسانية والثقافية، أمراض عصر انحطاط عربي مريض بالقهر والاستبداد والتخلف والعجز عن الخلاص ويممنا بها شطر أوربة وقلنا للقوم هذا هو إسلامنا، فماذا ننتظر بعد هذا من هذا الآخر؟ الذي بدأ يسن قوانين تسمح للمدرسين في مدارسه أن يضربوا أبناء المسلمين فقط لأن أولاد المسلمين معتادون على الضرب ولايفهمون لغة الحوار هذا الآخر ذاته هو الذي لم يأت بلادنا بمشروع مارشال يبني ويعمر ويربي ويحل الامن والسلام ولكنه أتانا بمشروع أبو غريب يعذب ويغتصب ويذل ويستعبد، هُنّا على أنفسنا فهُنّا على الآخرين· وختمت السباعي حديثها مؤكدة أن الخطوة الأولى من طرفنا نحو التعايش مع الاخر تكمن في تحديد هويتنا، من نحن وماذا نريد، وماهي الاصلاحات اللازمة والضرورية في حياتنا وثقافتنا ووسائل نهوضنا بهذه الثقافة لتصبح جديرة بالحضارة التي تنتمي إليها·