بركان سياسي جديد ينفجر هذه المرة من جنوب لبنان وتتطاير منه الحمم لتطال جميع مراكز النفوذ في المنطقة والعالم مؤذنة بميلاد لحظة إقليمية ودولية جديدة. لقد أبدع بلد التحضر العريق والذوق الرفيع، حيث عشق الحياة وأصالة الانتماء للفكرة والعشيرة، أروع مقاومة ونسج أجمل بطولة ضد أضخم آلة حرب ودمار في العالم. ملحمة أسطورية يمكن وصفها، دون مبالغة وبغضّ النّظر عن مآلات الصراع وتداعياته، بكونها أعظم مقاومة عربية وإنسانية ضد الصهيونية والإمبريالية الغربية. وعلى امتداد الوطن العربي تتجه أنظار المعارضات السياسية صوب بلد الأرز غابطة صمود أهله وفرحتهم بالنصر المثخن بالجراح والمآسي. ومن هذه المقاومة العظيمة تستقي الدروس والعبر : الدرس الأول: المقاومة شعبية أو لا تكون لا يجادل خبير في أن سرّ صمود المقاومة وبسالتها يكمن في شعبيتها وارتباطها العضوي بالجماهير. فهي البيوت والمدارس والحوزات والمساجد والمستشفيات والمدارس. لم تقسم المقاومة شعبها يوما إلى نخبة طلائعية مثقفة وعامة دهماء ساذجة وإنما كانت هي ذاتها دائما النخبة والمجتمع والقيادة والجند. ألم يكن القائد الزعيم حسن نصر الله جنديا بسيطا في الجبهة يقاوم المحتل؟، وإن كانت نيران العدو قد أخطأته فإنها لم تخطئ فلذة كبده "هادي" سنة 1997 عقب مواجهات دارت بين مقاتلي الحزب والجيش الإسرائيلي في منطقة الجبل الرفيع جنوب لبنان. العبرة من ذلك هو أنه على المعارضات العربية أن تتخلى عن نخبويّتها وتلتصق ميدانيا بأرض المعركة فتترجم خطابها "النخبوي" و"المتعالي" إلى لغة يفهمها كل الناس، أطفالا ونساء، شيبا وشبابا، جامعيّين وأمّيّين. لغة سمّتها المقاومة اللبنانية "دحر المحتل الصهيوني الغاصب" وعلى هذه المعارضات أن تسميها إذا أرادت تحررا "رفض المستبد الظالم". وإذا كانت حرب المقاومة هي حرب تحرير فإن الصراعات التي تخوضها المعارضات العربية هي معارك حريات لا تحتاج فيها إلى راجمات وصواريخ بل إلى مبدئية وثبات. الالتحام بالجماهير يعني تعميم ثقافة الرفض والتحدي في البيوت والأحياء والمقاهي كما في الجامعات والنقابات والإدارات. إنه عمل شاق وطويل يتطلب صدقا في القول وإخلاصا في العمل حيث يصبح عنصر الثقة هو الجسر الواصل بين ضفتي المجتمع. الدرس الثاني : العمق الاستراتيجي ضرورة حيوية لم تكن المقاومة اللبنانية الباسلة لتصمد مثل هذا الصمود الأسطوري المذهل لولا عمقها الاستراتيجي المتمثل في إيران وسوريا. فالأولى توفر لها العتاد وكل ما تحتاجه الحرب من دعم مالي ولوجستي والثانية هي معبر الغداء والدواء وصانع لبنان الموحد ضد الصهاينة الغزاة واللبنانيين المتآمرين. عمق استراتيجي يزيده الفخ العراقي لأمريكا، قوّة وصلابة، والمحرقة الإسرائيلية في فلسطين، قيمة ومعنى. مثل هذا العمق ضرورة حيوية في نضال المعارضات العربية ضد المحميات الأمريكية الجاثمة فوق أوطانها، وافتقادها إليه ييسّر مهمة هذه الأخيرة في تأديبها وتقليم أظافرها كلما طالت قليلا. لن يكون بالإمكان قطعا توفير عمق استراتيجي في مثل الحجم الذي توفر للمقاومة اللبنانية بسبب وقوع أغلب الدول العربية، المؤهلة للعب مثل هذا الدور، بين فكي الكماشة الأمريكية-الصهيونية. غير أن المعارضات العربية قادرة على توفير عمق استراتيجي من نوع آخر. إنه أسطول المثقفين والإعلاميين من العرب وأصدقاء الحرية في العالم الذين يتطوعون لنصرة القضايا العادلة ومد أصحابها بكل أنواع الدعم المعنوي والتغطية الإعلامية. ولعلنا نتفق جميعا على تراجع ظاهرة القهر الدكتاتوري مع بروز فضائيات ومواقع الكترونية مترافقة مع بروز مجتمع مدني أممي يضع قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان في صدارة اهتماماته وحركته الميدانية. إن شبكة الحقوقيين والمثقفين والإعلاميين العرب يجب أن تدعم ب"رابطة عربية للأحزاب الوطنية المعارضة" تضم كل ألوان الطيف السياسي من أجل تكوين جبهة عربية موحدة ومتضامنة في مواجهة استبداد الأنظمة القائمة. تلك أسمى خدمة يمكن أن تقدّم للمقاومة في لبنان وفلسطين وهي ربما أيضا كفارة لقعودنا وعجزنا عن مساندة أهلنا هناك بغير الدعاء والبكاء. الدرس الثالث: الإرادة أولا، العقل أخيرا لو تنبأ مثقف عربي بأن "ميليشيا حزب الله" ستعلن ذات يوم حربا على "إسرائيل" تذيقها من العذاب ألوانا ومن الصواريخ على مدنها أمطارا لقيل معتوه لا يفقه موازين القوة ولم يدرس علوم السياسة والعلاقات الدولية. فرابع قوة عسكرية عالمية متحالفة مع "الشيطان الأكبر" لا يمكنها عقلا ومنطقا أن تنسحب أو أن تعجز أمام "شرذمة من الإرهابيين"، كما يروق للإعلام المتصهين تسميتهم، اللهمّ إلا بمدد من ذي القرنيين أو بجيش من الملائكة مردفين. لو قلنا مثل هذا الكلام لضحك الواقعيون والعقلانيون ملئ أشداقهم، فهم عباقرة عصرهم وخبراء قومهم الذين أيقنوا بأن القضاء على الدكتاتورية عندنا مطلب مستحيل ما لم يوافق عليه البيت الأبيض وبأن الديمقراطية والحريات حلم عصي ما لم يأذن به أسياد العالم. إنهم بذلك يبرّرون جبنهم وعجزهم عن التضحية ولو بمنصب رخيص جاد به عليهم وليّ نعمتهم، إنهم يسمّون العمى واقعية والجبن عقلانية. درس المقاومة هو أن الإرادة تحطم الجبال الرواسي وتدك عروش الطواغيت وصناع المآسي. ولكي تكون كذلك لا بدّ لها أن تعانق الجنون كما قال نزار قباني في وصف الملحمة الفلسطينية: يا مجانين غزة ألف أهلا بالمجانين إن هم حررونا إن عصر العقل السياسي ولى من زمان فعلمونا الجنونا الدرس الرابع : العقيدة والقبيلة ليستا شرا مستطيرا أعاد كثير من "المفكرين" أسباب تخلفنا السياسي والاجتماعي عموما إلى سيادة العقل الإيديولوجي وهيمنة العصبية الطائفية (الدين، العرق، الحزب ...الخ) على النخب المنتجة للوعي والموجهة للرأي العام. فثالوث العقيدة والغنيمة والقبيلة هو سرّ أزمة العقل السياسي العربي وتعثره في نظر محمد عابد الجابري. رؤية واحدية، نمطية وخاطئة، مسكونة بوهم الحداثة المتحررة من وصاية الدين والمجتمع وكأنّ العقل الإنساني حالة مجردة ومتعالية أبدا على واقعها، متجاوزة له ومنتجة دائما لما هو أفضل منه. المقاومة اللبنانية مجسدة في "حزب الله" ذي المرجعية الدينية – الطائفية (الشيعة الإثني عشرية) تماما كما هي المقاومة الهندية ضد الاحتلال البريطاني مجسدة في زعيمها البوذي "المهاتما غاندي" والمقاومة اليسارية في أمريكا اللاتينية متجذرة في الايديولوجيا اليسارية مع البطل الماركسي "تشي غيفارا" وفي الايديولوجيا الدينية مع قساوسة لاهوت التحرر من أمثال البرازيلي دوم هلدر كامار، كلها نماذج متكررة لما يمكن أن تبدعه المرجعيات الدينية والإيديولوجية وحتى الطائفية من بطولات وإنجازات إنسانية رائعة. إن الإنبتات عن الانتماء، دينيا كان أو إيديولوجيا أو طائفيا أو قوميا، ليس شرطا للتقدم والحداثة بل نراه يفضي في أكثر الأحوال إلى إنتاج كائنات بل جماعات مشوّهة بلا هوية وبلا تاريخ، وهل العقلانية شيء سوى حضور التاريخ بمحموله الثقافي، في العقل، يلهمه ويوجّهه ويشحنه بالمعاني والقيم. ليس عيبا ولا مجافاة للعقلانية أن يكون هناك انتماء ما لفكرة أو عقيدة، مهما كانت عقلانيتها، أو ولاء لطائفة أو قومية، مهما كان حجمها الديموغرافي ووزنها الجيوسياسي، بل العيب كل العيب والكارثة والخراب هو أن يتحول هذا الانتماء إلى تعصب وتحجر وانغلاق. أما أن يكون انتماءا منفتحا على الآخر، المغاير، أو على القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة فعندها يصبح قوة جذب واستقطاب للاحترام والتعاطف والالتفاف الإنساني. ذلك هو درس المقاومة الذي يعلمنا أن انتماءاتنا الإيديولوجية وتمايزاتنا السياسية ليست شرا مستطيرا في ذاتها وأنها يمكن أن تكون ينبوعا متدفقا لإنتاج الفضائل الوطنية والقومية والإنسانية إن نحن وظفناها في أفق الخير والمحبة للناس أجمعين، ذلك هو، في نظري، المعنى العميق لقوله تعالى : "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" - الأنبياء: 107 – بهذا الأفق الإنساني وحده نستطيع أن نعيش هويتنا وننمّيها ونعطي لخصوصياتنا مضمونا أخلاقيا وفاعلية حضارية. ومن هذا المنظور تصبح المقاومة اللبنانية بعمقها الديني والطائفي وبانفتاحها القومي والإنساني، عبرمحاربة الشر الصهيوني- الامبريالي، إثباتا جديدا على قدرة الإنسان على التعالي والتسامي وحجة داحضة لمقولات موت الايدولوجيا وأوهام نهاية التاريخ، فالتي ماتت حقا هي إيديولوجيا التطرف الصليبي والغطرسة الصهيونية، والذي انتهى بالفعل هو تاريخ القطبية الأمريكية الواحدة والمدمرة، لتنطلق دورة حضارية جديدة نأمل أن تكون أكثر إنسانية من سابقاتها. الدرس الخامس : السلام الحقيقي لا يوقّعه ملك أسير صراع المعارضات العربية مع أنظمتها هو أقرب إلى الحرب منه إلى مجرد المواجهة السياسية التي تتجاوز استعمال العنف وسيلة لحسم الاختلاف. لقد شاءت أنظمة الحكم في أغلب الأقطار العربية، وبدرجات متفاوتة في حدّيتها، اللجوء إلى أجهزة القمع وتوظيف كل مؤسسات الدولة (القضاء، الإعلام وحتى التعليم ...الخ) من أجل تركيع مخالفيها وإقصائهم ترغيبا وترهيبا. إنها أنظمة تنظر إلى السلطة كغنيمة حرب لا تجوز قسمتها وإلى المعارضة ك"أقلية" خائنة، عميلة أو متطرفة، حسب مقتضيات السوق الدولية للاستهلاك السياسي. فهي متطرفة وإرهابية إذا كان الخصم إسلاميا، رجعية شوفينية إذا كان قوميا، ومتزندقة عميلة، محتمية بالخارج، إذا كان يساريا. تهم وألقاب تساوي تهمة الخوارج في تاريخنا الإسلامي حيث يعتبر الوقوف أمام السلطان الجائر خروجا عن طاعة ولي الأمر وخلعا لربقة البيعة موجبا لحد الحرابة. إنها إذن بقايا إرث الدولة السلطانية انتقلت لما يسمى تجاوزا بالدولة الوطنية الحديثة التي لم تعرف من الحداثة سوى نزعتيها العدمية والتوتاليتارية. هذه الأنظمة لا تريد دمج معارضاتها داخل النسق السياسي والقانوني الرسمي إلا لحاجات التوظيف والتزويق للإيهام بتعددية مزيفة أو إجماع كاذب. لقد حاولت شرائح من المعارضات العربية التعامل مع الموجود والتكيف مع المنظومة القانونية الرسمية على أمل تغييرها من الداخل والانتقال بها تدريجيا وسلميا إلى الطور الديمقراطي. محاولات باءت كلها تقريبا بالفشل الذريع حيث استعصت هذه الأنظمة عن الإصلاح الحقيقي مُؤْثرة سياسة المراوغة والاحتواء والابتلاع على الصدق والانتقال والانفتاح، فكان أن انسدّت آفاق التغيير وضاعت كل أحلام الحرية لندخل دورة استبدادية جديدة شارك فيها، هذه المرة، كثير من الإسلاميين والديمقراطيين والتقدميين الذين ابتلعتهم الأنظمة وأعادت إنتاجهم سفراء وحكماء وخبراء داخل المجالس التشريعية والاقتصادية للدولة، بعيدا طبعا عن القضايا الحارقة والمصيرية التي تبقى من صلاحيات رأس السلطة التنفيذية والأيادي الخفية. أما قطاع المعارضات العربية الذي آثر المبدئية وعدم الانصهار في بوتقة الديمقراطية المغشوشة فقد ظل محافظا على شعرة معاوية مع أنظمة الاستبداد تجنبا للدخول في متاهة العنف المضاد الذي عادة ما يزيد الأوضاع سوءا وتعقيدا. لم يبق لهذه المعارضات العربية التائهة والمعزولة إذن سوى الصبر والمناشدة والتفاوض طريقا للإصلاح وتسوية الأوضاع أملا في الوصول يوما إلى سلام أهلي شامل وعادل. لكن غاب عن هذه المعارضات أن السلام الحقيقي لا يوقعه ملك أسير وأن الحرية ليست منّة وعطية بل هي صيرورة تاريخية قد تكتسب بالتفاوض ولكنه تفاوض القوة والأقدام الراسخة لا تفاوض المسكنة والاستجداء. ذلك درس آخر من دروس المقاومة اللبنانية الباسلة ربما يمحي عنا بعضا من عار أوسلو ومدريد والمعارضات العربية الحائرة. **نشر على الوسط التونسية بتاريخ 4 سبتمبر 2006 *