أمضى محمد مزالي نحو 30 عاما في المسؤولية، آخرها ستة اعوام كرئيس للوزراء انتهت بفراره من البلاد الى الجزائر. ابن بقال بسيط ، ثم خريجا من الفلسفة في السوربون، ثم وزيرا للدفاع والصحة والتربية حيث بدأ مشروع التعريب. لكن عندما اظهر نجاحا في رئاسة الحكومة بدأ بورقيبة يفكر في جعله خلفا له. وعندما ذاعت المسألة بدأت مؤامرات القصر تحاك ضده لمنعه من الوصول. الطامحون كانوا كثيرين. وفي سنه المتقدمة اصبح بورقيبة اكثر اعتمادا على زوجته «الماجدة» وسيلة. وهو اللقب الرسمي لسيدة تونس الأولى التي كانت تشارك الرئيس في كل شيء وفي الرضا والغضب والقرار، وكانت تستجوب الوزراء وتهددهم وتصرفهم وتطلب من بورقيبة معاقبتهم. ولم يكن الرجل يناقش، كان مؤمنا بمدارك «الماجدة» ومقتنعا بجرأتها ومعرفتها بالشؤون التونسية وحدسها حيال الخصوم. وعندما بدأت صحته تنهار أضيفت الى القصر سيدة نافذة اخرى، ابنة شقيقته، التي ستصبح مع الايام اكثر تأثيرا عليه. وكلتاهما لم تكن تنظر بعين العطف الى سي مزالي. في صفحات مدوّنة بدقة مذهلة يروي محمد مزالي (للاسف بالفرنسية وفي انتظار الترجمة العربية) تفاصيل مرحلة شديدة الاهمية من تاريخ تونس والعالم العربي سواء. ففي خلال رئاسته للحكومة (1980 1986) انتقلت الجامعة العربية الى تونس وانتقلت اليها منظمة التحرير والقيادة الفلسطينية وتعرضت لمحنة الوحدة الفورية مع الجماهيرية العظمى. وعندما حاول بورقيبة الرجوع عن الاتفاق تلقى التهديد بعد الآخر. ذات يوم جاء ابو عمار وابو اياد الى مزالي ليقولوا له ان ليبيا تعد هجوما عسكريا عبر الحدود يقوم به ليبيون بثياب الجيش الليبي، وان الذي أطلعهم على المخطط هو الحسن الثاني. واصيب مزالي بالذعر. وابلغ عددا من الدول العربية بالامر، كما ابلغ فرنسا. وفي اليوم التالي اهتزت اجواء تونس بهدير طائرات الفانتوم التي أخذت تقصف مقر منظمة التحرير الواقع بين البيوت. لكنها كانت طائرات اسرائيلية. والهجوم الليبي لم يقع. لكن ليبيا نسيت الوحدة مع تونس وانتقلت بها الى المغرب والحسن الثاني بالذات! يعتقد محمد مزالي ان اهم صفتين في بورقيبة كانتا الشجاعة والرؤية. منذ ان بدأ نضاله ضد فرنسا في الثلاثينات وهو يتكهن بما ستصير الامور اليه في نهاية المطاف. الا انه من العام 1934 الى العام 1952 لم يكف عن دخول السجون والمعتقلات. وعندما وقف امام المدعي العام الفرنسي العام 1939 قال له: «لقد ناضلت وعانيت من اجل الدفاع عن افكاري ضد العنصرية. ومن اجلها ضحيت بحريتي وصحتي وسعادتي. واني مستعد للتضحية بحياتي من اجل ذلك. ان انتصارها يستحق هذا الثمن. ليس لديّ ما اضيفه». هذا الرؤيوي الشجاع كان ايضا محللا ممتازا. فعندما حاولت الحركة الاستقلالية الالتحاق بألمانيا ودول المحور للانضمام الى الحرب ضد فرنسا، كتب الى رفاقه من سجنه في «قلعة سان نيكولا» يحذرهم: اياكم وهذه المخاطرة. المانيا لن تربح الحرب. «وعندما تنتهي هذه الحرب يجب ألا يرى الشعب التونسي نفسه في معسكر المنهزمين. فلتكن لكم قوة الانتصار على مشاعركم العاطفية وقاوموا تأثير الجماهير التي لا ترى بعيدا والتي في حاجة دائمة الى من ينير طريقها». واظهر حسن التحليل نفسه بعد نهاية الحرب عندما قرر رفض الاغراءات بالانضمام الى المعسكر الشيوعي، قائلا العام 1953 «هل يتخيلون ان شعبا عريقا من الحضارة العربية والدين الاسلامي، شعبا عتيقا عرف ساعة المجد... يمكن ان يذوب في مجتمع غريب؟». يقول محمد مزالي: «كان بورقيبة يجسد بالنسبة الينا مصير بلدنا لدرجة اعتقدناهما واحدا. وبالاضافة الى ان اب الامة كان رجلا غير عادي فان سحره الشخصي لعب دورا مهما في تاريخنا. كان استراتيجيا عظيما وتكتيكيا لماحا». انتقد فرنسا الاستعمارية لكنه استمال الليبراليين الفرنسيين الى جانب قضيته. وعندما طالب بحق تونس في الحرية كان يستشهد دائما بأقوال المفكرين الفرنسيين. شكرا على هذه الوثائق. المقال نشر بجريدة الشرق الوسط التونسية