هل التاريخ يعيد نفسه أم انه الانسان يرجع الى نفس أخطائه ؟ فالذي قاله البابا في محاضرته بألمانيا عن الاسلام و المسلمين يوم 13 سبتمبر الجاري يكاد يكرر بالحرف ما قاله البابا يوربان الثاني يوم 27 نوفمبر من سنة 1095 في كاتدرائية كليرمون فيرون الفرنسية، حين أطلق شعوب أوروبا ضد دار الاسلام فيما سمي بالحروب الصليبية و التي دامت قرنين كاملين و انهزمت خلالها فلول الصليبيين لا بالسيف المسلم و لكن بتفوق حضارة الاسلام وبداية النهضة الأوروبية عندما احتكت بالاسلام. بدأت تلك الحروب أو الحملات الثمانية بمجزرة القدس الرهيبة التي نفذها صعاليك أوروبا ضد المسلمين و اليهود و قال المؤرخون و منهم من رافق الحملة الأولى بأن الدماء بلغت الركب في شوارع القدس الشريف، في 17يوليو 1096، ثم انتهت تلك الحروب بموت قائد الحملة الثامنة لويس التاسع الملقب بالقديس لويس ملك فرنسا في تونس سنة 1270.و قيل مات بالطاعون بينما كان يواجه جيشا اسلاميا خرج من القيروان لمنع مسيرة الصليبيين نحو بيت المقدس و شهداء تلك المعارك ما تزال أضرحتهم تزار في عاصمة الأغالبة الى اليوم. و الغريب بأن البابا الحالي و بعد ألف عام من انطلاق مظلمة الحملات الصليبية ضد الاسلام يكرر ما دعا اليه سلفه البابا يوربان الثاني، و خطاب كليرمون فيرون مشهور تناقله المؤرخون و منهم القلانيسي، حيث دعا زعيم الصليبيين ملوك أوروبا الى مقاتلة من سماهم البرابرة و الكفار الذين تسلطوا على أكفان السيد المسيح، و لم يأت نبيهم سوى بالبهتان وبأنهم ( أي المسلمون) أمة مهانة و ساقطة، و أضاف: انه عار علينا نحن شعوب الأسياد أن تهزمنا أمة من المنحطين و السفلة و نحن الذين لدينا الدين الصحيح. هكذا تكلم هذا البابا ليجند صعاليك أوروبا و الجائعين من شعوبها لأن سنوات الجفاف ومرض الزراعات تفشى في أوروبا، و اتفق مع الملوك و اقطاعيي الأرض أن يجعل للفلاحين الفقراء مخرجا من بؤسهم و سوء حالهم حين أطمعهم في خيرات الشرق و زيتونه و أعنابه و نخيله و أنهاره و بحاره كما أثبت ذلك في كتابه عن جذور الحضارة الغربية المؤرخ الفرنسي الأمين جون توناي ( نشر دار شانزيليزي بباريس سنة 1957 من صفحة 51 الى 71 بعنوان الحالة الاقتصادية و السياسية عند انطلاق الحروب الصليبية) ثم ان نفس المؤرخ النزيه أقر بأن العقل و المنطق لم تعرفهما حضارة الغرب سوى عام 1169 عندما نقل العالم المسلم الجليل ابن رشد الى أوروبا من الأندلس المسلمة علوم العقل و الحجة والبرهان، مثلما نقل المسلمون مدارس الطب و الصيدلة مع ابن سينا و ظلت الجامعات الأوروبية تدرس كتاب القانون للطب لابن سينا الى اليوم و كذلك ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية و أيضا كتاب رسالة الملنخوليا للطبيب اسحاق بن عمران الذي عالج فيها الأمراض النفسية و العقلية بالموسيقى و ادماج المريض في أسرته في القرن العاشرعندما كان الأوروبيون يحرقون المرضى معتقدين بجهلهم أن الشيطان دخلهم و سكنهم. ثم ان الحملات الصليبية هي التي مكنت الأوروبيين من معرفة المستشفيات و المصحات في مدينة شيزر وعند أميرها الشاعر أسامة ابن منقذ الذي علمهم أيضا مراسم النظافة و الصحة، كما تعلم الأوروبيون من عرب الأندلس مناهج الزراعة، و أسبانيا الى اليوم تعتمد طرق الري التي كانت بقرطبة المسلمة. ان هذه الحقائق التي غابت عن ذهن الحبر الأكبر للكاتوليك هي الجديرة بأن يعرفها الرجل الذي يمثل حضارة السيد المسيح حتى يتواصل الحوار بين الديانتين السماويتين كما كان الحال مع البابا يوحنا بطرس الثاني الذي ناضل من أجل الحق و ساند قضايا الاسلام السمح المعتدل. أما الخطاب الغريب الذي سمعناه من قداسة البابا الجديد فانه يقدم خدمة جائرة لأعداء الحوار الضروري بين الاسلام و المسيحية و ينسف جهود الخيرين الأمناء من أبناء الحضارتين للوفاق و التأسيس للسلام العالمي القائم عى العدل و الحق. ثم تصوروا لو نحن المسلمين وصمنا المسيحية قاطبة بالارهاب و الابادة لأن الحربين العالميتين اللتين شنهما مسيحيون أوروبيون و أمريكان و روس ذهب ضحايا خلالهما أكثر من خمسين مليون ضحية في كل أرجاء المعمورة، و فيما يسمى المحرقة اليهودية لو صدقنا اليهود مات في المحتشدات النازية بأيدي المسيحيين ملايين اليهود و الروم و المناضلين و لم نعمم هذه الممارسات على الحضارة الغربية بل اعتبرناها انحرافا عن المسيحية التي يقدس الاسلام نبيها و أمه الطاهرة مريم العذراء عليهما السلام. ان البابا وهو في قمة المسؤولية لا يمكن أن يتحول الى مبرر للمظالم التي تهز ضمائر الشرفاء و المسلطة على الاسلام و المسلمين في العراق و أفغانستان و لبنان و فلسطين والشيشان، في ظل سياسات باطلة شرعا و أخلاقا و قانونا دوليا يمارسها عنصريون وارهابيون رسميون أحلوا دماءنا بالقتل و استباحوا أراضينا بالاحتلال و اغتصبوا شعوبنا بالقهر و شرعوا لابادتنا و لتذييلنا و لاذلالنا كأننا أمة من الهنود الحمر. و أفضل جواب على هذا الجهل هو التمسك بالثوابت و الدفاع عن العرين و القول بصوت عال: حي على السلام و حي على الاسلام