يستند هذا التحالف الجديد بين الولاياتالمتحدة الأميركية والحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي إلى مرجعية التحالف الأميركي التركي، لا سيما أن النموذج التركي بات يستهوي تقريبا الحركات الإسلامية المعتدلة التي استلمت السلطة في العالم العربي. في المؤتمر الصحافي الذي عقده الشيخ راشد الغنوشي في تونس يوم أمس، استمر في تقديم رسائل طمأنة للغرب، حين أكد زعيم حركة "النهضة" الإسلامية، "على العمق الحضاري لتونس مغاربياً وعربياً وإسلامياً وعلى العالم، خاصة مع اشقائنا في ليبيا والجزائر وايضا على الانفتاح على اوروبا وخارجها واستعادة دور تونس المؤثر في المتوسط... وعلى علاقات الصداقة التاريخية مع الولاياتالمتحدة الاميركية". كما اكد "الالتزام بالأمن والسلم في العالم... واحترام المواثيق والمعاهدات الدولية" للدولة التونسية. والسؤال المطروح في تونس،هل يمكن إقامة ديموقراطية تعددية حقيقية ناضلت من أجلها أجيال كاملة من المناضلين التونسيين على اختلاف مرجعياتهم الفكرية والسياسية، في ظل زواج الموائمة بين حركات الإسلام السياسي والدول الغربية، لا سيما مع الولاياتالمتحدة الأميركية؟ الثورة التونسية التي فجرت ربيع الثورات العربية، جاءت بعد الأزمة الاقتصادية والمالية التي اندلعت في سنة 2008. وجاءت بعد ان بلغت المديونية الاميركية حداً لم يسبق له مثيل في حاضر أميركا. وتزامنت مع إفلاس اليونان، وأضواء اقتصادية حمراء مقلقة في اليابان، ومع خطر محدق بالبرتغال واسبانيا وايطاليا وبريطانيا وفرنسا وغيرها... وجاءت الثورات متزامنة مع الإعداد للانسحاب العسكري من العراق ومع العجز عن ضرب ايران، ومع ارتفاع موجة الهجمات على القوات الغربية في افغانستان، والجدل الدائر في أميركا وفرنسا حول انسحاب مبكر لهذه القوات ولو على مراحل. جاءت الثورات العربية، وفي القلب منها الثورة التونسية، بعد أن بدأت الولاياتالمتحدة الأميركية تفقد سيطرتها على العالم العربي، وبعد أن أدركت أن حركات الإسلام السياسي أصبحت تمثل القوة الوحيدة المنظمة وعابرة الحدود في العالم العربي، والحالة هذه توصلت إلى قناعة أنه لا يمكن استمرار السيطرة الغربية المفقودة من دون التحالف مع الحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي. والنموذج التركي في ظل حكم حزب العدالة والتنمية كان يشجع الولاياتالمتحدة الأميركية على إقامة مثل هذا التحالف. الانفتاح الأميركي على الحركات الإسلامية في العالم العربي، والذي سيرتقي إلى مستوى التحالف يقوم على احترام هذه الحركات الإسلامية المعتدلة للمبادئ التالية: الالتزام الواضح بالديموقراطية، وتطابق تصريحات قادة الإخوان بين النص العربي والنص الانكليزي بحيث لا يكون لهم خطابان مختلفان، والتركيز على العمل كقوة إسلام معتدل ومعاد للإرهاب، وتعزيز الديموقراطية الداخلية التي تسمح لشباب جماعة الإخوان بالتعبير عن مناخ جديد من الحرية في الآراء السياسية. ومن الواضح أن الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة يكرر تقريبا الإلتزام بهذه المبادئ، والأمر عينه لباقي زعماء الحركات الإسلامية المعتدلة في مصر، وسوريا وغيرها. فقد بات محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة (حزب الإخوان في مصر) يقول علانية "إن الجماعة تريد برلمانا متنوعا بعد انتخابات أيلول المقبل ولا تسعى لفرض الشريعة، وان الحزب كما الجماعة يدعون إلى دولة مدنية". وأفسح "حزب الحرية والعدالة" المجال لدخول 93 مسيحيا قبطيا إلى صفوفه، وبينهم النائب الثاني لرئيس الحزب. ذهب الشيخ راشد الغنوشي إلى حد التأكيد بان حركة النهضة مع اقتصاد السوق، والعولمة الليبرالية المالية، ومع تعزيز علاقات الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي.. في الواقع التاريخي، علينا أن نرى هذا الانفتاح الأميركي الجديد والكبير على الحركات الإسلامية المعتدلة في زمن ربيع الثورات العربية، يدخل في سيرورة عملية استبدال النخب العربية في علاقاتها التبعية مع الغرب.في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت الحركات الوطنية الاستقلالية، والجيوش العربية التي استلمت السلطة، هي القوى التي انخرطت في عملية التبعية الكاملة للغرب، الآن استنفدت هذه الدول التسلطية العربية دورها بعد أن ثارت الشعوب العربية ضدها وأسقطتها في ثلاث دول عربية رئيسة، تونس وليبيا ومصر. يستند هذا التحالف الجديد بين الولاياتالمتحدة الأميركية والحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي إى مرجعية التحالف الأميركي التركي، لا سيما أن النموذج التركي بات يستهوي تقريبا الحركات الإسلامية المعتدلة التي استلمت السلطة في العالم العربي. من الواضح أن حركة النهضة التي استلمت السلطة في تونس بعد فوزها في الانتخابات الأخيرة، لا تملك خياراً اقتصاديّاً جديداًً على صعيد الاقتصاد الكلّي،وهي ليست مع العولمة البديلة، بل ستسير في سياسة النظام السابق للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على الصعيد الاقتصادي، ألا هو برنامج إعادة الهيكلة البنيوية للاقتصاد وسائر "الترسيمات الموجّهة لعملية الحدّ من الفقر". حيث أن حركة النهضة لاتستطيع أن تحظى بالمصداقيّة، إذا لم تحظ برضى المؤسسات الماليّة الدوليّة؛ حيث تبدو الطبقة السياسيّة الجديدة التي تشكل الحركة الإسلامية نواتها الصلبة، عاجزة عن فك علاقات التبعية بالغرب. الغرب ليس مع الديموقراطية الحقيقية التي تقود إلى بناء دول عربية وطنية قادرة أن تتعامل معه من موقع الندية والشراكة المتكافئة, فالغرب يتحدث بلغة ضرورة القبول بما تفرزه العملية الديموقراطية من تولّي الإسلاميين الحكم في المنطقة العربية، بهف إبقاء سيطرته على العالم العربي التي اهتزت جدياً بعد اندلاع ربيع الثورات العربية، وما تحالفه ضمن سياسته الجديدة مع الحركات الإسلامية المعتدلة إلا تأكيداً على دوره في مصادرة مضمون الثورات العربية، الذي يكمن في المطالبة ببناء دول عربيية مدنية وديموقراطية تعددية تحترم قيم الحداثة والعلمانية والديموقراطية، وتؤمن حقاً بالهوية العربية الإسلامية في بعدها الحضاري والتاريخي، لا تلك الهوية المنغلقة على الماضي الاستبدادي. المستقبل اللبنانية - الاربعاء 2 تشرين الثاني 2011 - العدد 4163 - رأي و فكر - صفحة 19